وكالات التصنيف الدولية هي شرٌ لا بدّ منه في النظام المالي العالمي. بالدرجة الأولى، هي شركات ربحية بأقصى درجات النفعية الرأسمالية ولها ارتباطات ومصالح مع كيانات ومع سياسات تؤثّر على قراراتها وقراءاتها. كانت تلك الوكالات مسؤولةً بهامش كبير عن تراكم المشاكل والأكاذيب التي أوصلت إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008. وبالتالي يُمكن تفهّم أي شركة أو بلد في العالم، يرفض الاعتراف بحكمها عليه.

ولكن رغم كل شيء، تلعب الوكالات دوراً ضرورياً في السوق يُرشد المستثمر صوب البلدان والشركات المستقرة أو الواعدة مالياً، ويُنفرهم عن تلك التي تحوق حولها المخاطر؛ ومن ارتضى أن يلعب في السوق عليه أن يعترف باللاعبين وألّا يعيش وهم النكران.
حساسية مصرفية لبنانية
لطالما كانت هناك حساسية معينة بين المصارف اللبنانية، المعنية مباشرة بالتصنيف الائتماني الذي يصدر دورياً، وبين الوكالات التي تُعد هذا التصنيف. فالبنوك اللبنانية الكبرى تتجاهل ما يصدر من تصنيف دولي، وكثيراً ما يتحدّث المصرفيون عن تقارير الوكالات بنوع من الفوقية على اعتبار أنها لا تفهم اللعبة المالية اللبنانية.
بالفعل، هذه اللعبة التي تقوم على جذب أموال المغتربين والاجانب وتوظيفها في سندات الخزينة والقروض الاستهلاكية ذات الفوائد المرتفعة، قد تُظهر في كثير من الأحيان عوارض التأزّم، وتحديداً لدى قياس معدّل الانكشاف على الدين العام إلى رأس المال أو الودائع. كذلك لدى المقارنة بين معدّلات الاستحقاق المتفاوتة بين القروض والودائع.
ولكن برأي المصارف، فإن هذا الأمر جزء من الخصوصية اللبنانية التي تضمن أن خدمة الديون ستُدفع، وهي أساساً على رأس لائحة مدفوعات المالية العامّة.

تشويه لمصلحة

يُمكن تفهّم موقف المصارف بحدود معينة، غير أنّها تذهب بعيداً في تشويه الواقع لصالح مصالحها، كلّه تحت حجّة "وكالات التصنيف لا تفمهنا"؛ تماماً كما يتمّ تشويه إعلانات القروض والمنتجات المصرفية عبر اللوحات الإعلانية ذات النجوم المجهرية التي تحيلك إلى ملاحظات غير مقروءة هدفها في معظم الأحيان حرمان القارئ من "الخدمة المميزة المعروضة" عبر حسم عدم أهليته.
فلنأخذ على سبيل المثال أحد المصارف الكبرى الذي يعرض على موقعه الإلكتروني التصنيف الائتماني من الوكالات الثلاث الأهم في العالم: Moody’s ،Fitch ،S&P.
من المفترض أن يكون هذا السلوك معززاً للشفافية، غير أن ما يفعله المصرف، أو القيمون عن نشر معلوماته، هو إيراد المعلومات منذ أيار عام 2013، أي منذ عامين. حينها كان المصرف عند معدلات تصنيف أعلى مما هو عليه حالياً، وتحديداً منذ كانون الأول عام 2014. قد يكون هذا الخطأ بريئاً، غير أن المعلومات واردة في القسم الخاص بالمستثمرين الذين يُفترض أن يعتمدوا عليها ليُقرّروا توظيف أموالهم في هذا المصرف أو في بعض الأدوات المالية التي يُعدّها؛ وبالتالي، قانوناً، يُعدّ هذا السلوك جرمياً، كونه يروج معلومات غير دقيقة ومحدّثة قد تُؤدّي إلى تكبّد المستثمر خسائر كبيرة.

كثيراً ما يتحدّث المصرفيون عن تقارير الوكالات بنوع من الفوقية على اعتبار أنها لا تفهم اللعبة المالية اللبنانية


مصرفٌ آخر، يعرض المعلومات الصحيحة ولكن من دون شرحها وتفصيلها، لتبدو عبارة عن شيفرات مقصودٌ إيرادها من دون طول سيرة. في المبدأ، عندما نتحدّث عن تصنيف عند درجة Ba1 مثلاً، فإنّ ذلك يعني "درجة ما دون معايير الحدّ الأدنى للاستثمار"، أي أن المصرف أو البلد المصنّف غير مؤهّل ليستقبل الأموال الاستثمارية في رحابه، ولكن عند عرض هذا التصنيف من دون تفصيل ماذا يشمل ــــ الودائع طويلة الأجل بالليرة أم تلك التي بالعملات الأجنبية أم تلك قصيرة الأجل ــــ فإن هذا الأمر يُعدّ أيضاً تحويراً. تماماً كما يكون الأمر لدى إيراد ما يوازي Ba1 في التصنيف، وهو BB+؛ للوهلة الأولى يظنّ المرء أنه إيجابي ولكنه فعلياً دون درجة الاستثمار أيضاً. مصرف ثالث يُفضّل عدم إيراد التصنيف الذي تُحدّده له الوكالات المعنية من أساسه؛ ولا تجد في أي زاوية من القسم المخصص لهذه الغاية على موقعه الإلكتروني أي إشارة إلى التقويم الائتماني المطلوب.
ليس الهدف من استعراض مشاكل المصارف مع التصنيف الائتماني الكلامٌ لمجرد الكلام، فجميعنا يعرف أن المستثمر الذي يهدف إلى توظيف أمواله في مؤسسة مالية ما سيعتمد مصادر تنضح بالثقة أكثر من المواقع الإلكترونية للمصارف (وقد أضحى واضحاً أنه رغم كل التقدم على مستوى الصناعة المالية في لبنان، كانت المصارف حتّى الأمس القريب متخلّفة تكنولوجياً مقارنة بالبلدان المجاورة بشهادة صندوق النقد الدولي نفسه).
إنما يعود الأمر إلى مناقشة المدّعي بلغته. فالمصارف اللبنانية تُحقّق أرباحاً صافية خيالية تقارب ملياري دولار سنوياً، وتُقدّم لها الحكومة اللبنانية ومعها المصرف المركزي ملعباً سهلاً لتطوير أعمالها وقطف الإيرادات الهينة كلّ ليلة على مدار العام. فماذا ينقصها لكي تكون شفافة؟ لماذا تستمرّ صورتها سوداوية من منظور المستهلكين على اعتبار أنها آلات ربح لا تكترث لأصحاب المؤسسات الصغيرة ولا لأرباب العائلات؟ لماذا تُمعن في تجاهل الواقع، وفي بعض الأحيان تشويهه في نظر المستثمرين، أكانوا أفراداً أم شركات؟
والمشكلة الكبرى هي أنه كلما أصدرت وكالات التصنيف تقويماً جديداً، تجد المصارف تردّد النغمة نفسها: "خفض التصنيف لن يؤثر على المصارف وعلى وضعيتها المالية إنما قد يساهم في خفض الطلب على سندات الخزينة اللبنانية" على حد تعبير أحد المصرفيين في تقرير نشرته صحيفة "دايلي ستار"، غداة قيام وكالة Moody’s بخفض تصنيف المصارف الثلاثة الكبرى، "عوده"، "بيبلوس" و"بلوم".
هذا يعني ان المصارف، وتماماً كما تعمد في اللحظات التي تركد فيها إيراداتها، تلوم الدولة اللبنانية (أي الشعب اللبناني مجتمعاً) وهي زبونها الاول والأدسم كلّما خُفض تصنيفها! وهو وضع مضحك فعلاً. وللمفارقة فإن الوكالات تعتمد هذا المنطق أيضاً. أخيراً حين أجرت Moody’s خفضها لتصنف الودائع في المصارف اللبنانية الكبرى، اوردت خفضها لتصنيف سندات الدولة اللبنانية وضعف الثقة الائتمانية بها إضافة إلى تراجع اقدرات الحكومة على دعم المصارف في حال الحاجة إليها على أنهما سببين يدفعان إلى خفض تصنيف المصارف.
السؤال الذي يفترضه هذا الواقع المضحك هو: هل تخرج المصارف من عقدتها الائتمانية وتحاور الجمهور والمستثمرين بقليل من الشفافية تمهيداً لشفافية كاملة، وذلك بغض النظر عن عقدتها الاوديبية مع الدولة اللبنانية؟