المطعم بسيط يذكر بأغنية الشحرورة «ع البساطة البساطة». بدءاً باسمه «طاولة»، على عكس الموضة السائدة بين المطاعم في لبنان والتي ترتكز على اختيار أغرب الأسماء لنفسها ولأطباق الطعام، والتي لا يفقه معظمنا ما الذي تعنيه، وصولاً إلى التصميم الداخلي الهادئ والرصين والمتواضع الذي يشعرك بأنك في مطبخ والدتك. صورة تعبر عن جوهر فكرة مزوّق الذي لم يرد تأسيس مطعم بالمعنى الحرفي للكلمة، بقدر ما كان يريد «التعبير عن التقاليد المحلية من خلال الأكل»، ونقل «روحية الأكل الذي نشعر به من خلال طعام الأم، بخلاف ما يقدمه الطهاة المحترفون الذين يعملون كأرباب عمل ويركزون على الإنتاجية والأرقام».
من السوق إلى الطاولة

رغم أن مطعم «طاولة» تأسس عام 2009 إلا أن قصته مرتبطة عضوياً بـ»سوق الطيّب» الذي انطلق عام 2004. يشرح مزوّق أنه «بعد إطلاق السوق الذي هدف إلى مساعدة صغار المنتجين والمزارعين على تسويق منتجاتهم مباشرة للمستهلك أسبوعياً عبر القدوم من الريف إلى المدينة، تطورت الفكرة عام 2007 مع إطلاق مهرجانات أكل وعيد. فمع الحفاظ على سوق الطيب، كانت الفكرة أنه بدل أن نأتي بالمنتج إلى المدينة لماذا لا نبدل الأدوار وندعو الناس إلى الأرياف لتذوق الطعام اللبناني التقليدي الخاص بكل منطقة والمعدّ من قبل أهلها، وفي الوقت عينه اكتشاف لبنان وبيئته وتاريخه وما يخبئه من تقاليد وتراث. أما طاولة فكانت عصارة هاتين التجربتين والتي أنشئت لتتيح الاستفادة من التجربة والتمتع بها ولكن بشكل دائم ومستمر عبر مطعم ثابت يقدم المأكولات اللبنانية التقليدية يومياً لزواره والتي تحضّرها ربات منزل من مختلف المناطق».
و»طاولة» توسعت وكبرت لتضم عدة «طاولات». فإضافة إلى طاولة بيروت في مار مخايل التي تعد «طاولة وطنية شاملة بمعنى أنه يقدم فيها طعام تقليدي لبناني يمثل مختلف المناطق اللبنانية، هنالك طاولات أخرى في كل من دير القمر وعميق وجربتا وآخرها في صيدا»، وهذه الطاولات «مناطقية تختص بتقديم الأكل الخاص بالمنطقة التي توجد فيها ومن تحضير ربات منزل من هذه المناطق».

تحصل ربة المنزل في النهار على دفعة قد توازي مرتب شهر كامل


نقل التراث... غذائياً

قد يبدو غريباً أن يكون الهدف من «طاولة»، وقبلها مهرجانات «أكل وعيد» و«سوق الطيّب»، تعريف اللبناني بمائدته التقليدية. ماذا نقول في هذه الحال عن «المطاعم اللبنانية» التي تقدم المازات والتبولة والكبة النية وغيرها... ما الجديد الذي يقدمه مزوّق من خلال أفكاره. وهل هناك أكل لبناني نجهله؟ يوضح مؤسس «طاولة» أن هناك «جهلاً بالأكل اللبناني. فمعظم الناس يعتقدون أن الأكل اللبناني هو المجدرة والتبولة والحمص وبعض المأكولات العامة التي يعرفها الجميع. لكن حين تبحث في لبنان تكتشف كمية الفروقات بين منطقة وأخرى. فكل منطقة من لبنان معروفة بأكل معين، حتى طريقة تحضير الأكل تختلف بين منطقة وأخرى. مثلاً، لدينا الكبة التي تختلف طريقة إعدادها في زغرتا في الشمال عن قرى الجنوب».
بالنسبة إلى مزوّق، يوجد «لبنان واحد بتعابير مختلفة». وهذه التعابير يفرضها المناخ والطبيعة الجغرافية التي لا تتشابه بين مناطق الساحل والجبل والداخل، وحتى ضمن المنطقة الجغرافية الواحدة. فاختلاف المناخ ينجم عنه اختلاف في الأرض، وبالتالي اختلاف في المزروعات وحكماً طرق مغايرة لإعداد الطعام. من هنا، فإن الهدف من «طاولة»، وفقاً لصاحب الفكرة، هو «نقل التراث. فيمكن التعبير عن التراث بعدة طرق، إما من خلال الزي، الرقص، الزجل، الهندسة، البيوت التقليدية... وهي بمجملها بدأت تندثر. الذي بقي كأصدق تعبير عن التراث والقادر على خرق الوقت والمكان هو الأكل. لم يأخذ المغترب اللبناني معه غير الأكل. اليوم، الصفيحة والكبة في البرازيل أصبحتا من المأكولات البرازيلية بقدر ما اندمجت بالثقافة المحلية».

فرصة لربات المنزل

إضافة إلى ما تقدم، فإن لـ«طاولة» أبعاداً اجتماعية مهمة تساهم في تمكين ربات المنزل ومساعدتهن على أن يصبحن فاعلات في سوق العمل. فبدل أن يكون الطعام مجرد تسلية أو واجباً تقوم به ربة المنزل تجاه أفراد عائلتها، بات مورداً مهماً يؤمن لهن مرتباً مادياً معتبراً. يشير مزوّق الى أن «ربة المنزل التي تعمل في طاولة تتقاضى في النهار 100 دولار و50 دولاراً بدلاً لتنقلاتها. كما أنها تحضّر ثلث المائدة في منزلها، والثلث الثاني في المطعم، والثلث الأخير نحضّره نحن. فتتقاضى المال عن الطعام الذي حضّرته في منزلها كأننا نشتري منها. بالملخص، تحصل ربة المنزل في النهار على دفعة قد توازي مرتب شهر كامل. كما أن «طاولة» تفتح لها فرصاً للقاء زبائن محتملين قد يرغبون في التعاقد معها لمناسبات خاصة وهو ما حصل مراراً».
ما يقدمه مزوّق منذ عام 2004 أعاد تعريف معنى الربح. فالرجل لا يبحث عن مكسب مادي من جراء المشاريع التي أطلقها كما يشير، بقدر ما يريد المساهمة بنشر العدالة الاجتماعية. فالربح على ما يقول «ليس محصوراً بالربح المادي. هناك ربح اجتماعي وربح بيئي لا يمكن تجاهلهما. أما الربح المادي فهو وسيلة لاستمرار هذه المهمة وتطويرها وتنميتها وليس هدفاً بحد ذاته».
أما جديد مزوّق فهو إنشاء بيت في زفتا في النبطية على غرار بيت عميق وبيت دوما وبيت دير القمر التي تقدم التجربة التقليدية عينها من الناحية الغذائية، مع إتاحة الفرصة للزوار بالاستمتاع بالمبيت في أحد هذه البيوت التي أعيد ترميمها للحفاظ على طابعها الأثري والتي تنقل عبر هندستها وغرفها والتجربة المتكاملة التي تقدمها صورة عن البلدات التي تقع فيها. كما أنه خارج نطاق لبنان، يسعى مزوّق إلى إقامة طاولة في باريس لتقديم الأطباق التقليدية الفرنسية.
ينتهي اللقاء، ولا تنتهي التجربة. تأتي ربة المنزل التي حضّرت الطعام يومها لتشاركني المائدة وتخبرني عن تجربتها وعن الأطباق المتنوعة والشهية التي أعدّتها، ومعنى وأصل كل طبق. تأكل، تتعلم، تكتشف، تسافر عبر الزمن وعبر مختلف المناطق اللبنانية في طاولة. هناك أنت لست في مطعم، أنت في المنزل.

* للتواصل مع «قسم أعمال» الرجاء إرسال المواد إلى البريد الالكتروني: [email protected]