يقضي الإنسان أكثر من 90% من وقته بين الجدران، داخل مبنى أو في منزل. والمباني مسؤولة عن نحو 45% من إجمالي استخدام الطاقة في العالم، ونحو 80% من استهلاك ناتج المياه، وتُستخدم فيها 50% من المواد والموارد. في المقابل، تساهم الأبنية الخضراء في خفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بما يراوح بين 35% و50%، وتساعد على توفير نحو 40% من المياه ونحو 30% من الطاقة.
ما هي المباني الخضراء؟

البناء الأخضر هو البناء الذي يوفر حياة أفضل للإنسان، ويراعي المعايير البيئية في كل مرحلة من مراحل البناء والتصميم والتنفيذ والتشغيل والصيانة، فيقلل بالتالي من الأثر البيئي الضار للمبنى على المجتمع والكوكب بشكل عام.
والبناء الأخضر منظومة متكاملة، تساهم من خلال قدرتها على توفير استهلاك الطاقة الكهربائية وترشيد استهلاك المياه والحد من الطاقة المستخدمة للتبريد وتسخين المياه... في زيادة العمر الافتراضي للمبنى وفي تحسين صحة الإنسان والحفاظ على النظام الإيكولوجي بما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد وعلى الإنتاجية.

كيف يكون المبنى أخضر؟

يراعي البناء الأخضر المعايير البيئية في المراحل المختلفة للبناء. فمن حيث التصميم، تؤخذ في الاعتبار الظروف والعوامل المناخية للمكان لجهة حركة الشمس واتجاه الرياح... كما أن اختيار الموقع يلعب دوراً أساسياً في هذا الإطار. فقرب المبنى من مراكز الخدمات والطرق العامة يساعد في الحدّ من الحركة والتقليل من استخدام السيارات الخاصة للتنقل. فيما بعده عن المناطق الصناعية يقلّل من إمكان التعرض للأدخنة والأصوات المزعجة التي تؤثر سلباً على الأشخاص والمبنى.
ويراعى في البناء استخدام مواد صديقة للبيئة تقاوم العوامل الجوية بما يحافط على حرارة المبنى شتاءً ويساهم في تهوئته صيفاً. فعلى سبيل المثال، يحافظ استخدام العازل الحراري في بناء الجدران على درجة حرارة المبنى الداخلية لمدة 15 ساعة بدلاً من 4 ساعات في البناء العادي، بما يقلل من فاتورة الطاقة المستخدمة للتدفئة. كما أن استخدام طلاء مائل إلى البياض يقلل من امتصاص الحرارة. ويساعد الزجاج المزدوج، في صورة كبيرة، في عزل المحيط الداخلي عن البيئة الخارجية، فضلاً عن استعمال الطاقة المتجددة، مثل الرياح والطاقة الشمسية أو الطاقة الحيوية، واستخدام أنظمة أكثر كفاءة لضخ المياه وإعادة استعمالها...

مربح رغم الكلفة الإضافية

بحسب عضو مجلس إدارة مجلس لبنان للأبنية الخضراء المهندس راشد سركيس، البناء الأخضر «فسحة غير متناهية الأطراف. يمكننا البدء، ولكن علينا تحديد نقطة التوقف. هذا النوع من البناء قد يرتّب في مرحلة التأسيس أكلافاً إضافية تراوح بين 20% و30%، وربما أكثر بحسب رغبة المستثمر. ولكنها استثمارات تحسب بشكل مختلف، إذ إنها تنعكس مردوداً كبيراً بسبب الوفر الذي يترتب عليها في مرحلة الاستخدام. لذلك لا يمكن القول إن البناء الأخضر يكلف إضافة بهذه النسبة أو تلك، بل علينا احتساب كامل التدفقات المالية على مدة زمنية متوسطة لنستنتج الفروقات والنتائج المترتبة عن هذا الخيار».
ويوضح: «من الطبيعي أن يؤثر سعر التجهيز المطابق للبناء الأخضر على السعر الإجمالي. لكن هذا السعر يُدفع مرة واحدة، وعوائده المالية ستفوق التكاليف بكثير على مدى السنوات بسبب الوفر الذي يحققه في فواتير الماء والكهرباء، من دون أن ننسى الفوائد التي لا تقدر بثمن على الصحة والبيئة».

ماذا عن لبنان؟

لا تزال ثقافة البناء الأخضر في بداياتها في لبنان، وهي تحتاج الى وقت للتجذر. وفي هذا السياق، ينوّه سركيس بدور مجلس لبنان للأبنية الخضراء «والشراكة الحقيقية مع أطراف عدة تتلاقى على الهدف نفسه في تنمية المعرفة الحقيقية للبناء الأخضر». ويضيف: «كما في كل شيء، نفتقر في لبنان الى أرقام علمية يمكن الاستناد إليها لبناء المعطيات والتوجهات اللازمة. نفتش عن معلومات متعلقة بالطقس والتحولات، ونكتشف أن الكثير من المعلومات المدوّنة أُتلفت ولم نعرف تماماً حجم هذه الخسائر التي تؤثر في الدراسات لوضع معايير القياس للتأكد من مواءمة البناء لمواصفات البناء الأخضر في قسم منها».
وفي ما يتعلق بقانون البناء في لبنان ومدى مراعاته للبناء الأخضر، يشير سركيس الى أن قانون البناء المعمول به «أتى بشكل غير مباشر على أجزاء منفصلة في البناء الأخضر، مثل الجدران الخارجية التي حسمها من احتساب المساحات التي تدخل في معدلات الاستثمار السطحي والعام، على أن تجهز بعازل فوق ارتفاع 700 متر عن سطح البحر، وتفرض أن تكون النوافذ مصنعة من زجاج مزدوج. وهذا شرط يتعلق بتوفير الطاقة في الاتجاهين (تدفئة وتبريد). إلا أن القانون ذاته ذكر بكل صراحة عدم جواز تركيب المكيفات بشكل عشوائي على الواجهات، في حين نرى أن تطبيق هذه الفقرة غير جدي». ويلفت الى أن هناك «اقتراحات كثيرة موجودة على الطاولة. إلا أن أهم ما في الأمر هو اعتماد مبدأ أساسي لتعريف البناء الأخضر وما نريد منه، لا أن نكيف مصالحنا وتجارتنا مع عنوان اسمه البناء الأخضر». ويضيف: «مقاربة موضوع البناء الأخضر حتى اليوم لا تخرج عن إطار الترويض ليتلاءم مع مصالح البعض، بينما هو نمط حياة مختلف كلياً عن السياق الذي اعتدناه».
وللمصارف في لبنان دور كبير في تشجيع ثقافة البناء الأخضر. فقد اتخذ مصرف لبنان تدابير في مجال تشجيع الاستثمار في البناء الأخضر وروافده، وأطلق عدة برامج قروض بفوائد رمزية تساعد المشغل على تسديد الثمن ضمن التشغيل، منها ما يتعلق بالتسخين على الطاقة الشمسية، أو توليد الطاقة من الشمس، وغيرها. فيما تجاهر بعض المصارف بتبنّي كل ما له علاقة بالبيئة السليمة في كل ميادين الخدمات المصرفية.
ماذا عن الجامعات، وهل من اختصاصات وشهادات تمنح في هذا المجال؟
يجيب سركيس: «لم نسمع بعد عن إنجازات حقيقية في هذا المجال. لكننا نسعى ضمن برامج وخطط معينة الى دعم هذا العمل الواجب وطنياً لنفتح إطاراً جديداً يساعد على بلورة نوع جديد من الأعمال التي لم تكن موجودة سابقاً. وهذا يساعد على تطوير مفهوم البناء الأخضر بشكل مطرد وفعال، بدءاً من الجامعة، وصولاً الى التطبيقات العملية للأنظمة والقوانين، وبالتالي الاستناد الى خبرات متخصصة في هذا المضمار».
عضو نقابة المهندسين في بيروت وسام الطويل يؤكّد أن البناء الأخضر في سلّم أولويات النقابة، لافتاً الى أنه «في إطار تفعيل ثقافة البناء الأخضر، أصدرت النقابة معايير هذا البناء وقدّمتها إلى المجلس الأعلى للتنظيم المدني، كما تسعى الى إصدار قوانين ومراسيم مع الوزارات المعنية في هذا الشأن، وإلى وضع أسس ومواصفات البناء الأخضر والعمل على تسويقها مع كبريات شركات البناء».