الحديث عن جامعة رياديّة لم يعد ترفاً في لبنان. في السنوات الأخيرة، أدرك المسؤولون عن مؤسسات التعليم العالي أن التوجّه نحو مهمّة تحفيز الطلاب على الابتكار وتدريبهم نظرياً وعملياً، وتحويل الشهادة الجامعية من كونها وثيقة للتوظيف إلى بطاقة دخول إلى عالم العمل، ضرورة تنافسية حتمية.بعض الجامعات تلقفت الموجة وأنشأت «مراكز لريادة الأعمال»، وأطلقت برامج ومبادرات تدور معظمها حول كيفية تحويل الأفكار إلى منتجات وبعض الأمور التقنية مثل اختيار الفكرة وبناء منتج ناجح، ودراسة السوق، وكيفية التعامل مع العملاء، والحصول على مصادر للتمويل، مع تحليل لتجارب الشركات الناجحة.

فورة كمية لا نوعية
إلاّ أنّ التسابق المحموم بين المؤسسات لتبنّي هذا المفهوم الطارئ في تصميم المناهج التعليمية والدورات التدريبية لم يرفع حتى الآن مستوى الوعي بهذا المفهوم وبأثره، باعتبار أنّ نشر ثقافة ريادة الأعمال يتطلب مساراً طويلاً وأنّ مثل هذه البرامج ليست وصفة جاهزة لعلاج البطالة أو تعزيز الابتكار كما يتوقع منها، إنما يمكن أن تؤدي إلى تغييرات إيجابية فحسب. كذلك لا يمكن لأفضل البرامج تصميماً وتنفيذاً أن تنجح إلا إذا كانت واضحة وواقعية وتتماهى مع السياقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
قواعد اللعبة تغيرت، بحسب جهاد بيطار، مدير «سمارت إيزا» ( Smart ESA) عندما أصدر مصرف لبنان التعميم 331 في عام 2014، بهدف ضخ 400 مليون دولار أميركي في «اقتصاد المعرفة»، على شكل استثمارات تقوم بها المصارف الخاصة. التعميم يهدف في شكل أساسي إلى تحفيز ريادة الأعمال عبر كفالة مصرف لبنان لكلّ استثمارات البنوك التجارية في اقتصاد المعرفة، سواء كانت استثمارات مباشرة مقابل أسهم في الشركات الناشئة، أو غير مباشرة عبر المؤسّسات الداعمة للشركات الناشئة.
يمكن لريادة الأعمال أن تقلّل من معدلات البطالة (مروان بوحيدر)

هذا التعميم جعل السياق اللبناني مؤاتياً في شكل متزايد لإنشاء مشاريع ناشئة خاصة، لكنه خلق فورة كمية وليست نوعية، كما يقول بيطار. على خط مواز، وجدت الجامعات نفسها «تتخبط» في اللعبة وتسعى إلى تعديل رسالتها ورؤيتها وبرامجها لجهة بناء المعارف والمهارات لدى الطلاب في ريادة الأعمال. السؤال الذي واجه المؤسسات في البداية، بحسب بيطار، هو هل نستحدث المفهوم في اختصاص إدارة الأعمال أو الهندسة أو الزراعة أو الصحة؟
أما القضية فلا تكمن، كما يقول، بمضمون تلك البرامج، إذ إنّ معظم الجامعات باتت تطلع طلابها على تقنيات ريادة الأعمال، إنما في مقاربة مسألتين: «فكرة المشروع نفسها لجهة أن تكون ابتكاراً حقيقياً غير مقلّد نابعاً من الصفر، وكثيرون ليست لديهم الفكرة المبتكرة، وصعوبة التمويل لتأسيس الشركة».

المثابرة قبل الإبداع
بالنسبة إلى بيطار، الصفات الأهم التي يجب أن ترافق رواد الأعمال للنجاح هي امتلاك شخصية مستقلة وفضولية وبذل الجهد والتعب وتقبل المخاطرة والربح والخسارة، وهنا يفضل أن يكون رائد الأعمال مثابراً على أن يكون مبدعاً فحسب. ويستدرك: «حتى أولئك الذين يمتلكون أحلاماً وطموحات كبيرة والإرادة لتغيير مسارهم، عادة ما يحبطون من قبل ذويهم وأسرهم ومن حولهم والذين لا يشجعونهم. يرى الأهل في معظم الأحيان ضرورة أن لا يضيّع ابنهم وقته بتأسيس شركته بل يجب أن يستكمل دراسته ليعثر على وظيفة تحقق له الاستقرار».
يبدو لافتاً ما يقوله بيطار لجهة أن الجامعات تخرّج طلاباً موديل الـ2000 في إشارة إلى أنّ «بروفيل» المتخرجين لا يتناسب مع حاجات سوق العمل في عام 2018، ما يدفع الشركات لاستقدام أوروبيين وهنود يملكون المهارات الجديدة.
تعميم مصرف لبنان جعل السياق اللبناني مؤاتياً لتزايد الشركات الناشئة


أما «سمارت إيزا» فبرنامج أكاديمي وعملي أطلقه المعهد العالي للأعمال (ESA) في عام 2017، وهو مدعوم من السفارة الفرنسية وممول من مصرف لبنان ولا يستهدف طلاب المعهد فحسب إنما مفتوح لرواد الأعمال والشركات الناشئة وللأشخاص الذين يملكون أفكاراً مبتكرة ويرغبون في تطويرها وإنجاحها. وتركز في الغالب على بناء المعارف والمهارات لبدء مشروع تجاري وتشغيله ويساهم في تحسين كفاءة ونجاح المشاريع الريادية.
أكثر من 80 في المئة من الشركات الناشئة في العالم تفشل، وفق بيطار، من هنا كانت الحاجة ماسة لبرنامج يركز على كيفية إدارة مشاريع رواد الأعمال وأصحاب الشركات الناشئة كي تستمر وتتحدى كل الصعوبات التي يمكن أن تواجهها لتصبح مشاريعهم منتجة تتخطى حدود الوطن، «التقييم الدقيق للأثر مطلوب كي يتسنى أن يتحدد بمزيد من الدقة ما الذي يمكن أن ينجح، وكيف ينجح، ولماذا ينجح».
على حد تعبير بيطار، يعزز «سمارت إيزا»، لدى الأفراد مهارات مطلوبة في السوق، حتى لو قرروا عدم بدء نشاط تجاري. البرنامج يجمع بين الدورات النظرية والندوات المتخصصة والبعثات الميدانية. وينخرط فيه أساتذة وخبراء دوليون شاركوا في تطوير المشاريع المبتدئة والمشاريع الريادية في فرنسا ولبنان.

تحديات جديدة
كما هي الحال في أي مكان آخر في العالم، تواجه الجامعات اللبنانية، بحسب نتالي بيطار، مسؤولة مشروع DEEL لتطوير ريادة الأعمال لدى الطلاب في الوكالة الجامعية الفرنكوفونية، تحديات جديدة من حيث التعليم والأبحاث والحوكمة التي تتكيّف مع التغيرات المنهجية في بيئتها الاجتماعية.
في لبنان، يواجه المتخرجون الشباب في شكل متزايد عدم القدرة على العثور على وظيفة بعد التخرج، وبالتالي يمكن ريادة الأعمال، كما تقول بيطار، أن تقلل معدلات البطالة لدى الطلاب وتعزز التركيز على مبدأ خلق فرص العمل. وتشير إلى أنّ ثقافة ريادة الأعمال هي عنصر جديد نسبياً في الجامعات اللبنانية، ومعدل الوعي لا يزال متدنياً. من هنا كانت فكرة الوكالة لإطلاق «النظام الوطني للطالب رائد الأعمال»، والذي أعدته بالشراكة مع 14 جامعة لبنانية وبلدية بيروت ووزارة التربية والقطاع الخاص.
تؤكد بيطار أن المشروع بات في المراحل الأخيرة التي تسبق الإطلاق وهو سيتيح الفرصة للطالب الراغب في الشروع في ريادة الأعمال حالياً وليس لديه أي دعم أو نظام خاص لمواصلة دراسته وبدء أعماله الخاصة في الوقت نفسه، إذ يستطيع أن ينقطع 6 أشهرعن الدراسة لإنشاء شركته من دون أن يخسر مقعده الجامعي.
أما الهدف العام من هذا المشروع فهو تعزيز ثقافة تنظيم المشاريع والابتكار في التعليم العالي من أجل تعزيز ظهور الشركات التي لديها إمكانات للنمو، وهو يستلهم من برنامج PEPITE الفرنسي لإنشاء «أقطاب الطلاب للابتكار ونقل ريادة الأعمال».
الأهم في المشروع السعي لإيجاد حاضنة أعمال في وسط بيروت بالتنسيق مع بلدية بيروت تقدم خدماتها الفنية والاستشارية فى مجال ريادة الأعمال لطلاب الجامعات المشاركة في المشروع. ومن شأن هذه الحاضنة أن تدعم المبادرين الذين تتوافر لهم الأفكار الطموحة والدراسة الاقتصادية السليمة، وبعض الموارد اللازمة لتحقيق طموحاتهم، بحيث توفر لهم بيئة عمل مناسبة خلال السنوات الأولى الحرجة من عمر المشروع وزيادة فرصة النجاح من خلال استكمال النواحي الفنية والإدارية.