يتميّز لبنان عن محيطه بأمور عديدة، لعلّ أبرزها ارتفاع أسعار الخدمات الأساسية فيه. تُشكّل فاتورة الهاتف الخلويّ الثابت مثالاً على ذلك، خاصة لما تتضمنه من محاولة لغمها بضرائب ورسوم «مبطَّنة» تُشكّل ثلثي السعر، فتُسهم في رفع الفاتورة إلى مستويات قياسية بعد إضافة الخدمات الأخرى الضرورية، ودون أن يتمكّن اللّبنانيّ فعلياً من الاستفادة من نوعية وجودة اتصالات توازي الأكلاف المدفوعة مقارنةً بدول أخرى بدلاً من العمل على خفضها، تجهد الحكومات المتعاقبة على رفع الضرائب المفروضة على خدمات الهاتف الخلوي.هي معضلة لطالما عانى منها اللبنانيون، فتناوب المعنيون على تقديم رؤية جديدة لقطاع الاتصالات وخدمات مستحدثة تُجاري التطوّر التكنولوجيّ الذي لم نستطع اللّحاق به. وبقيت المشكلة نفسها، على الرغم من محاولات بعض الوزراء لخفض السعر، وهو ما لمسه المواطن في فترات معينة، إذ إنّ لعملية خفض الفاتورة آثارها الإيجابية في الفرد مهما كانت قيمة الخفض. غير أنّ اللّبنانيّ غير مدرك لمأساوية الوضع الذي بات متجذِّراً تاريخياً في أكلاف الخلوي الضريبية الباهظة، وأصبح الخروج منه معقَّداً، لأنّ الخسارة ستقع حتماً عند محاولة إغفال الضرائب لدى تحديد الأسعار بعد إضافة الأكلاف والأرباح طبعاً. على الرغم من كل هذا، يخرج وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال جمال الجراح، ليعتبر أنّ فاتورة الهاتف الخلويّ غير «عالية بالعموم، وربما هي فاتورة غالية ببعض جوانبها»، ما يستوجب التأكّد عملياً من صحة هذا القول، فما قد يُعَدّ سعراً مقبولاً لدى فئة من الميسورين، يستوجب أخذه في الحسبان في ميزانية شريحة كبرى من اللّبنانيين.

%65 ضرائب!
لا تُشكّل استخدامات المشترك الهاتفية سوى نحو 35% من فاتورة الخلويّ، فيما تستحوذ المكوِّنات الضريبية وشبه الضريبية على 65% منها على الأقلّ. وتُبرَّر الرسوم على اعتبار أنّها تغطي بدلات اشتراك شهريّ وخدمات، وبدل رسم إضافيّ على كلفة التخابر الخلويّ المحدّد على أساس الدقيقة، والضريبة على القيمة المضافة...
يشرح وزير الاتصالات السابق شربل نحاس، قائلاً إنّ «الضرائب تُشكل ثلثي فاتورة الخلويّ في لبنان. فضمن بنية الأسعار، وبعد مقارنة الكلفة والربح، يتبيّن أنّ الـ 65% تُشكّل ضرائب فوق الكلفة والربح منها 11% للضريبة على القيمة المضافة، والباقي يُشكّل رفعاً اصطناعيّاً للسعر. مع الإشارة إلى أنّ البلديات لا تستفيد حتى من الـ11% التي تُسرَق. وعندما حاولوا خصخصة القطاع آنذاك، كانوا يحاولون خصخصة جباية الضرائب، لا العمل التجاريّ. وبالتالي، أي مشروع خصخصة في هذا الموضوع هو محاولة شراء حقّ فرض ضرائب على الناس، وهو أمر غير مقبول بالمبدأ، لكونه احتكاراً لفئة خاصة. وبما أنّ السعر قد وُضع على أساس هذه الضرائب، سيُلتزَم بإبقاء هذه الضرائب، وإلّا فستظهر الخسارة».
ويبين «أنّ شركتي الخلويّ في لبنان تؤديان الخدمات للدولة، وتذهب بالتالي هذه الضرائب إلى الدولة. وبما أنهما لا تتحملان الأعباء، من السهل على الوزراء توظيف المحسوبين عليهم في هذه الشركات. كذلك يُطلب إليها رعاية بعض الحفلات، فتظهر على أنها تقدّم تبرعات، لكنها في الواقع تتبرّع من حساب الدولة».

أسعار عجيبة
عند الاطلاع الأوليّ على لائحة أسعار الخطوط الخلوية الثابتة في لبنان، يخال الفرد أنّ الكلفة الأدنى للاشتراك الشهريّ هي 15$، ولكن عند التدقيق فيها يتبيّن أنّ الحدّ الأدنى 24$. فلماذا هذا الاختلاف؟
تبلغ كلفة الاشتراك الشهريّ في خطّ ثابت لدى شركتي الاتصالات 15$ حسب المجيب الآلي الذي يشرح الباقة المقدّمة التي تشمل 60 دقيقة مجانية شهرياً للاتصال المحليّ، ليشير أخيراً إلى أنّ الأسعار المذكورة لا تشمل الضريبة على القيمة المضافة (الـ11%) التي ترفع الكلفة إلى حدود الـ 18$ مع إضافة قيمة الطابع الماليّ. الكلفة لغاية الساعة تبدو مقبولة، غير أنّ العميل لم يتنبّه إلى أنّ هذا السعر لا يشمل خدمة تبيان الرقم المتصل Clip التي تبلغ 4.5$. فهل يُعقل فصل خدمة مشابهة عن الكلفة الأساسية؟ وهل من إمكانية للاستغناء عن خدمة تُعدّ جوهرية للمشترك، وألا يُفترض أن تكون مجانية؟ وبهذا، تصبح الكلفة الأدنى نحو 24$ مع الضريبة المفروضة ظاهرياً. وفي حال تخطي أول 60 دقيقة مجانية، يتكبّد العميل المصاريف الآتية التي لا تشمل الضريبة على القيمة المضافة:
-كلفة الاتصال المحليّ من خطّ إلى آخر ضمن الشبكة نفسها هي 11 سنتاً للدقيقة.
-كلفة الاتصال المحليّ بشبكة خلوية أخرى أو بشبكة ثابتة هي 11 سنتاً للدقيقة + 10 ليرات لبنانية (تقريباً 12 سنتاً).
-تختلف تعرفة المكالمات الدولية تبعاً للبلد المُتَّصَل به.
-كلفة الرسالة المحلية 5 سنتات.
-كلفة الرسالة القصيرة الدولية 18 سنتاً للرسالة مهما كانت وجهتها.
-كلفة الرسالة المتعدّدة الوسائط MMS هي 15 سنتاً مهما كان حجمها.
-كلفة خدمة الإنترنت 10$ لـ500 MB. وهناك باقات بيانات أخرى للـMobile Internet:1.5GB بـ17$، 5 GB بـ23$، 10 GB بـ39$...
وتجدر الإشارة إلى أنّ كلفة شراء خطّ ثابت جديد تبلغ 50$، فيما يتكبّد العميل مبلغ 100$ كرسم تأمين لتثبيت خطّ مسبق الدفع يملكه.
انقر على الصورة لتكبيرها

وإذا شعر المشترك بأنّ الباقة الأولى لا تناسبه، يمكنه اختيار باقة أخرى للحصول على حسم محدّد، يبلغ متوسط كلفتها الأدنى لدى ألفا Alfa 77$ وفقاً للآتي: تشمل هذه الباقة (التي تبلغ أساساً وحسب الإعلان 45$) 550 دقيقة للاستعمال المحليّ مع 100 رسالة قصيرة و1.5 GB للإنترنت يُضاف إليها رسم الاشتراك (15$) وخدمة CLIP الضرورية (4.5$) لترتفع الفاتورة إلى أكثر من 70$ دون إضافة كلفة الاتصالات الدولية أو استعمال مكثف لإنترنت البيانات، فيدفع العميل بحدود 93$ حسب أحد المشتركين بعد إضافة الـTVA والطوابع ودون احتساب كلفة الخدمات الإضافية التي يحتاجها، وقد تتخطى عندها الفاتورة الـ100$.

برنامج «وفّر» غير توفيريّ
ونشير إلى أنّ اختيار تفصيل تعرفة الخطوط الثابتة يعود إلى توفيرها نظرياً أدنى الأكلاف للمكالمات، مقارنةً بالخطوط المسبقة الدفع. ومع أنّ هذه الأخيرة تُقدّم برامج مُشجعة لبعض الفئات كالشباب، إلّا أنّ جولة سريعة على بعضها يفضح المستور.
فعلى سبيل المثال، تُقدم شركة Alfa برنامجاً يُدعى «وفّر»، ولا يمتّ إلى التوفير بصلة! فبعد التجربة، تبيّن أنّ كلفة الاتصال المحليّ فيه تبلغ 0.3$ للدقيقة. وإذا أراد المشترك إلغاء هذا البرنامج، يخسر كلّ رصيده المتراكم، أو عليه الاختيار مرغماً لبرنامج U-chat، وهو ذو مزايا لا تناسب الجميع. وعند سؤال خدمة الزبائن عن التناقض بين تسمية برنامج «وفّر» وكلفته، يكون الردّ أنّ البرنامج قديم، وجرى تعديل خدماته. فلماذا يستمرّ برنامج مماثل قد يُضلّل ــ باسمه التسويقيّ ــ العميل الذي سيتكبّد الكثير بدلاً من التوفير؟

تفاوت ملحوظ مع الخليج
وعلى الرغم من التباين في الحدّ الأدنى للأجور بين الدول، إلّا أنّ مقارنة أكلاف فاتورة الخلويّ مع المحيط لا بدّ منها لإظهار ارتفاعها الجليّ في لبنان، برغم تدني الأجور وتراجع الوضع الاقتصاديّ فيه.
لنأخذ الخليج مثالاً. لا تُفرض في السعودية ضرائب على فواتير الهاتف الخلويّ، ما خلا الضريبة على القيمة المضافة التي تبلغ 5%. ويختار العميل الباقة الأنسب لاحتياجاته وفق اشتراك يدفعه مباشرةً إلى شركة الاتصالات (تمتدّ الباقات من 50 ريالاً في حدّ أدنى، وصولاً إلى 800 ريال).
لا تُشكّل استخدامات المشترك الهاتفية سوى نحو 35% من فاتورة الخلويّ

يخبرنا أحد الرعايا اللبنانيين أنّه اختار باقة الـ100 ريال من شركة STC، تُدفع في نهاية كلّ شهر بعد إضافة أكلاف المكالمات الدولية وخدمة الإنترنت إليها. ويضيف: «تشمل الباقة خدمة اتصال غير محدودة (أي مجانية) داخل شبكة STC. وفي حال إجراء مكالمة إلى خارج الشبكة، يتكبّد المشترك 0.30 ريال/دقيقة. كذلك يُتاح له إرسال 1000 رسالة نصية قصيرة مجاناً داخل الشبكة، على أن يتكبّد 0.25 ريال لكل رسالة تُرسَل إلى رقم خارج شبكة STC. وتبلغ كلفة الرسالة المتعدّدة الوسائط MMS 0.50 ريال. وتتيح باقة الـ 100 ريال للمشترك إمكانية الاستفادة من 4 GB شهرياً للإنترنت، إضافة إلى 4 GB أخرى (wi-fi) مجانية يستفيد منها العميل من خلال أجهزة الشركة الموزّعة في كلّ الأماكن المهمّة في البلد». وبذلك، تبلغ كلفة فاتورته 200 ريال شهرياً بعد إضافة المكالمات الكثيرة التي يجريها خارج الشبكة، عدا عن تلك الدولية. وتُحصّل شركة الاتصالات نسبة 5% VAT، تدفعها كلّ ثلاثة أشهر للهيئة العامة للزكاة والدخل التابعة للمملكة. إشارة إلى أنّه يجري تثبيت الخطّ المسبق الدفع مجاناً في السعودية، أو يدفع المشترك مبلغ 35 ريالاً لشراء خطّ جديد وتثبيته.

15 يورو
وبالانتقال إلى مثال أوروبيّ، يبلغ الحدّ الأدنى المعقول لاشتراك الخلويّ في فرنسا نحو 25 يورو (يشمل مكالمات مجانية ضمن أوروبا ونحو أميركا+إنترنت)، مع إمكانية توافر عروض أرخص وصادمة، لكن ضمن شبكة المؤسسة الواحدة تُقدّمها شركات اتصالات معروفة أوروبياً مثل شركة Free Mobile، ولكن أي اتصال بشبكة أخرى يُكبّد المشترك أكلافاً ترفع من فاتورته. أمّا في لوكسمبورغ، فتبدأ الفاتورة الشهرية من 15 يورو في حدّ أدنى تشمل مكالمات ورسائل نصية مجانية ضمن أوروبا، مع خدمات أخرى و2 GB لاستخدامات إنترنت البيانات. وكلما أراد المشترك استعمال إنترنت أكثر، ارتفع سعر الباقة، إذ تُكلّف باقة الـ6GB (30 يورو) مع المكالمات والرسائل المجانية غير المحدودة.

الخفض ممكن؟
يبدأ العمل نحو خفض الفاتورة في لبنان بفصل الاقتطاع الضريبيّ عن القسم التشغيليّ والتجاريّ المتمثل بالكلفة والربح تعزيزاً للشفافية التي تمكّن المواطن من التحقق من أنّ عائدات الخلويّ تُغذي بأكملها خزينة الدولة، وللتمكّن من تبيان مدى قدرة «المنتفعين» على خفض فاتورة الخلويّ في حال ظهور العكس، بالتوازي مع زيادة الاستثمارات في هذا القطاع. وبطبيعة الحال، يجب تحميل قطاعات أخرى (تدرّ أرباحاً طائلة ولا تطاول المواطن العادي مباشرةً) جزءاً من العبء الضريبي الذي تتحمّله فاتورة الخلويّ للتمكّن من خفضها وللحؤول دون التأثير بمداخيل الخزينة الأساسية. كذلك لا يجوز التكلّم في أي خصخصة قبل الفصل بين الضرائب وأكلاف التشغيل والتطوير خوفاً من بيع ضرائب سيادية وانتقال الاحتكار إلى القطاع الخاصّ. وبالنسبة إلى خفض الأكلاف، يمكن احتساب المخابرة الخلوية انطلاقاً من مدتها الفعلية عوضاً عن اعتماد الدقيقة كوحدة قياس، مع إعادة النظر بالآلات الإلكترونية المستحدثة التي توفّر حتماً في قطاع التشغيل، هذا إن وفّرت أساساً دون أن يطاول ذلك كلفة الخدمات المقدّمة. وألا يفترض أخيراً أن يساهم نموّ حجم الاستهلاك المتزايد في خفض الفاتورة لكون سوق شبكات المحمول يعتمد منطقياً على عدد المستخدمين؟

* [email protected]