بعد غيابٍ دام 12 عاماً سيعود لبنان إلى القائمة الرسمية للدول التي يمكن الحج إليها والتي تصدرها سنوياً الكرسي الرسولي وذلك ابتداء من عام 2019. الجميع متأهب وحاضر ما عدا الدولة التي يحتاج المرء إلى «نور إلهي» ليلتمس جاهزيتها، ما خلا بعض المؤتمرات والمبادرات التي عقدت برعايتها والتي لا تغني ولا تسمن من جوع. في الأساس قد لا يؤثر غيابها على أحد، ولربما غيابها ساهم ولا يزال في زيادة تقرب المواطنين من الله الذي لم يعد حل سواه لتخليص اللبنانيين من معاناتهم اليومية والحياتية على الأصعدة كافة.

مبادرة الفاتيكان مهمة لإعادة تكريس لبنان كمقصد أساسي للسياحة الدينية حول العالم، ولكنها في الوقت عينه تبيّن حجم الإهمال الرسمي الذي يعاني منه هذا الجانب من السياحة في بلدنا. فعلى رغم رمزية الخطوة إلا أن لبنان بمقوماته الدينية والروحية لا يحتاج إلى لائحة لتكريس رسالته. أن يذكر اسم لبنان 70 مرة في الكتاب المقدس، وأن تحدث في أرضه وتحديداً في قانا معجزة السيد المسيح الأولى وأن تكون أرضه منبعاً لا ينضب للقديسين، كلها معطيات كفيلة بتكريسه محجاً عالمياً، ومع هذا وللأسف فأغلب السياحة الدينية في مهد «شربل ورفقا والحرديني» لا تزال داخلية واغترابية، فيما دول أخرى في الجوار كالأردن نجحت في تسويق نفسها عالمياً على رغم ضآلة إمكاناتها مقارنةً بلبنان.

ما هي السياحة الدينية؟
على رغم تسميتها بالسياحة الدينية إلا أن الدين ليس بالضرورة المحرك الأساسي أو الوحيد لهذا النوع من السياحة. بمعنى آخر وفيما أنه من البديهي أن يكون الموقع السياحي دينياً إلا أن مقاصد الزوار يمكن أن تكون متنوعة. فإضافة إلى السيّاح الذين تحركهم دوافع دينية للزيارة، فالبعض الآخر قد يزور أي موقع ديني من باب الحشرية البحتة، أو لدوافع ثقافية وفنية لاستطلاع المنحوتات أو الفن العمراني أو اللوحات، كما لأسباب تاريخية وغيرها... وعلى ما تقول الأستاذة الجامعية المتخصصة في السياحة والأنتروبولوجية الدينية الدكتورة نور فرا حداد فإن «السياحة الدينية وبمعناها الأشمل تعني زيارة أماكن دينية بكل بساطة مهما كانت الخلفيات». ولهذا التعريف أهمية كبيرة من النواحي التجارية كونه يفرض تسويق الموقع بشكل واسع وخارج إطاره الديني البحت، وبالتالي الإضاءة على النواحي الفنية والعمرانية والتاريخية لجذب أكبر قدر ممكن من السيّاح.
كذلك فإن السياحة الدينية لا تعني مطلقاً أنه على السائح أن يكون ذا دينٍ معيّن لكي يزور موقعاً دينياً محدداً. من هنا أهمية التفريق بين السياحة الدينية والحج بحسب حداد، التي توضح أن «الحج يدخل ضمن الإطار الشامل للسياحة الدينية، لكن ما يميّزه هو أنه وعلى خلاف هذه الأخيرة، تحركه دوافع روحية ويتضمن مسحة إيمان». وبالمختصر فإن كل حاج هو سائح ديني، بينما العكس ليس صحيحاً.

دولة تحتاج معجزة للتحرك
إعادة الفاتيكان للبنان على لائحة الدول التي يمكن الحج إليها يطرح تساؤلاً عن الأسباب التي دفعت الكرسي الرسولي إلى استبعاد لبنان طوال كل هذه السنوات عن اللائحة. ويرى رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام الأب عبدو أبو كسم أن الفاتيكان يولي البعد الأمني أهمية كبيرة لضمان سلامة الحجاج والسيّاح، وأن الأوضاع في المنطقة وفي لبنان خلال الفترة الماضية لم تكن مشجعة. لكن مبادرة الفاتيكان الجديدة تثبت أن لبنان يعد بلداً آمناً، بالتالي بإمكان السيّاح زيارته وهم مطمئنو البال. ويتساءل أبو كسم بحسرة أنه وإذا استثنينا السياحة الدينية ما الذي يستحق الزيارة في لبنان؟ وأي قلعة وموقع أثري لا تعاني من الإهمال وسوء الصيانة والتجهيزات والبنية التحتية؟
الجزء الأعظم مما يقام وينجز في مجال السياحة الدينية في لبنان بشقها المسيحي طبعاً هو ثمرة عمل الكنيسة بمختلف مؤسساتها المعنيّة وعدد من الجمعيات والأفراد المهتمين بهذا الجانب من السياحة. أما الدولة ففي سبات عميق. حين نسأل معد ومدير مشروع المسح الثقافي الشامل لتراث الوادي المقدس من خلال رابطة قنوبين للرسالة والتراث جورج عرب عن مساهمة الدولة فالجواب واضح لا يحتمل المجاملة «لا يوجد دولة».
ويوضح عرب أنه وعلى رغم أن «الوادي مصنف في لائحة التراث العالمي منذ عام 1998 لم تنفق الدولة اللبنانية ليرة واحدة عليه، وهذا ليس مبالغة بل واقع. وحالياً وبعد 6 سنوات من إلحاح البطريرك الراعي وحروب بالمعنى الفعلي للكلمة من المراجعات والاتصالات أعد ملف لتأهيل الطريق القائمة في الوادي، وقد تبلغنا أن ملف التلزيم أحيل منذ نحو الأسبوعين».
هذا حين لا تتدخل الدولة. أما حين تتدخل فالوضع ليس أفضل حالاً. فبحسب الأب خليل علوان رئيس مؤسسة تنمية الحج والسياحة الدينية في لبنان التي تأسست عام 2007 والمعتمدة من قبل مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان على أنها ممثل الكنيسة في كل ما يعنى بالسياحة الدينية «كنا قد وجدنا كتيبات حول المزارات في وزارة السياحة منتقاة بشكل عشوائي وتتضمن العديد من الأخطاء، وطلبنا منهم إعادة النظر في النصوص وتصحيحها، وقد زدنا 175 مزاراً مسيحياً عليها ووثقناهم».
والمضحك المبكي في الموضوع أنه وفي شباط المنصرم أعلن كل من الوزيرين جبران باسيل وأفيديس كيدينيان في مؤتمر صحافي كبير أن العام 2018 هو عام السياحة الدينية. «لكن ماذا فعلوا للسياحة الدينية؟ تتساءل الدكتورة نور فرا حداد، لم يفعلوا شيئاً». ولحداد قصة مميّزة تستحق السرد، كونها أطلقت في شهر حزيران الماضي تطبيق «Holy Lebanon»، وهو أول تطبيق إلكتروني يعنى بالسياحة الدينية في لبنان (أنظر الكادر). اللافت أن وزارة السياحة هي من طلب من حداد العمل على المشروع أيام الوزير ميشال فرعون، من دون أن تقدم الوزارة حتى في ظل الوزير الحالي غيدانيان أي دعم لها سواء مادي أو تقني، ليكون التطبيق ثمرة جهدها الشخصي وبدعم من عدد من الأشخاص وعلى رأسهم الوزير السابق ميشال إده.

الكنيسة فاعلة
تعمل مؤسسة تنمية الحج والسياحة الدينية في لبنان منذ تأسيسها على تفعيل الجانب الديني من السياحة في لبنان، وهي على ما يشرح رئيسها الأب علوان «أصدرت كتاباً حول 24 مزاراً مسيحياً في لبنان يتضمن رسالة كل مزار وكيفية الوصول إليه وتاريخه وهي في صدد ترجمته إلى اللغة الإنكليزية، إضافة إلى إصدارها العديد من الكتب حول التبريكات في المزارات». ومن ضمن مساعي المؤسسة لجذب أكبر عدد من السيّاح من حول العالم فإنها وبمناسبة اليوبيل 110 لمزار سيدة لبنان في حريصا الذي بدأ في 4 آب ويستمر حتى 26 تموز 2019 ستقوم «بدعوة المسؤولين عن السياحة الدينية في أوروبا في كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وسويسرا وألمانيا وحتى المسيحيين في الصين لكي ينفتحوا على السياحة الدينية في لبنان». أما بالنسبة إلى دول أميركا اللاتينية حيث للجالية اللبنانية حضور بارز وكبير والتي لا يزال سكانها يتمتعون بنزعة دينية قوية «فقد أقمنا مزاراً في حريصا لسيدة لوخان وهي سيدة الأرجنتين، ولسيدة باراسيدا وهي سيدة البرازيل ونحن نتحضر لإقامة تمثال لسيدة المكسيك أيضاً بهدف تقوية الروابط مع هذه الشعوب».
السياحة العربية المسيحية هي الأكثر رواجاً و300 ألف إيراني كانوا يقصدون حريصا سنوياً قبل الأزمة السورية


أما عن أعداد السيّاح الذين يقصدون مزار سيدة لبنان في حريصا فيوضح علوان أن «السياحة العربية المسيحية هي الأكثر رواجاً حيث يأتينا سياح من سوريا والأردن والعراق ومصر، أما السياحة الأوروبية فبدأت تزداد رويداً رويداً». ويضيء علوان على حجم السيّاح الإيرانيين الضخم الذين كانوا يقصدون المزار قبل اندلاع الأزمة السورية، والذين كان يبلغ عددهم سنوياً «حوالي 300 ألف سائح. وكنا قد اجتمعنا حينها مع وكالات السفر الإيرانية في حريصا وأجمعوا على أن أحد المطالب الأساسية للسياح الإيرانيين هو زيارة سيدة لبنان».
أما في الوادي المقدس في قنوبين الذي «تعود كل الأديار فيه إلى القرن الرابع، والذي شهد حضور جماعات مسيحية متعددة من مختلف الكنائس، إضافة إلى متصوفين إسلاميين لا تزال آثارهم موجودة»، فقد أنجز مشروع المسح الثقافي الشامل لتراث الوادي المقدس منذ إطلاقه عام 2012 بحسب عرب «مكتبة الوادي المقدس التي تحتضن آلاف الوثائق التاريخية المتصلة بحقبة قنوبين، أي الحقبة التي أقام فيها البطاركة في قنوبين نحو 400 سنة من 1440 حتى 1820. كذلك بنى المشروع مسرح الوادي المقدس المخصص للنشاطات الثقافية والفنية إضافة إلى معرض الوادي المقدس الذي يضم لوحات تم رسمها وأنجزت لكل معالم الوادي، وإلى جانب كل لوحة هنالك تعريف عنها بـ6 لغات. كذلك أُسس متحف يحتضن جميع المقتنيات التراثية التي عرفها الوادي المقدس لرجال الدين والعلمانيين كالألبسة واللوازم الزراعية والكنسية التي استخدموها». وبالنسبة للأجانب يكشف عرب عن إصدار «21 فيلماً عن الوادي وكل فيلم مترجم إلى 6 لغات (عربي، فرنسي إنكليزي إسباني برتغالي وإيطالي)، إضافة إلى مجموعة من الكتب مترجمة أيضاً إلى 6 لغات وهي تقدم كهدايا من الكنيسة لجميع الزوار الأجانب». ومن باب تشجيع السياحة الدينية واكتشاف هذا المكان المقدس يشدد عرب على «عدم وجود رسوم دخول وبوجود مرشدين سياحيين لا يتقاضون أتعاباً إلا في حال رغب الزوار بشكرهم على تعبهم وجهودهم».



قانا... المنسيّة
ما يجهله الكثيرون في لبنان أنه وبشكل رسمي لم يبت الفاتيكان حتى الآن ما إذا كانت بلدة قانا في جنوب لبنان هي المكان الذي قام فيها السيد المسيح بمعجزته الأولى بتحويل الماء إلى خمر في عرس أنسبائه، أو أنها بلدة قانا في فلسطين المحتلة المعروفة باسم كفر كنا. الوثائق والدراسات التي تعزز حجة لبنان عديدة جداً ومدعّمة بالحجج والبراهين، وقد بذل الرئيس نبيه بري وعقيلته رندة بري جهوداً كثيرة لتثبيت لبنانية قانا بشهادة الأب عبدو أبو كسم والسيدة جويس الجميّل عقيلة الرئيس أمين الجميّل الناشطة بقوة في هذا المجال أيضاً.
الغريب في الموضوع أنه وبغض النظر عن كلا الفرضيتين فمن واجب الفاتيكان حسم الجدل القائم لما لهذا الأمر من أهمية دينية للمؤمنين كافة من حول العالم، الذين من حقهم معرفة أين تقع قانا التي تحققت فيها المعجزة. بالنسبة للأب علوان فإن «الفاتيكان يقول إنه لا يوجد معطيات حاسمة للبت في الموضوع، ولكن هذا لا يلغي واجبنا بالعمل الحثيث والمستمر على إثبات لبنانيتها والإضاءة عليها عالمياً».
وتعتبر الجميّل أنه «إذا لم تعط قانا الأهمية اللازمة، فكل حديث عن السياحة الدينية في لبنان يبقى ناقصاً. ونحن حاولنا قدر المستطاع تشجيع السياحة إلى قانا وقمنا بوضع تمثال للسيدة العذراء هناك بحضور أكثر من 3 آلاف شخص، ولقينا دعماً كبيراً من الرئيس بري وبلدية قانا. لكن يبقى هنالك تقصير كنسي في هذا المجال، ونحن نطالب بوجود أكثر فاعلية للكنيسة مادياً وبشرياً من خلال كهنة ورجال دين، وتحديداً عند المغارة والأجران لإرشاد الناس».
في هذا السياق يقول متروبوليت صور وتوابعها للروم الملكيين الكاثوليك المطران ميخائيل أبرص، والذي تتبع مغارة قانا إدارياً لأبرشيته: «نحن مقتنعون بأن قانا المذكورة في الإنجيل هي قانا في لبنان، والرئيس بري حاول كثيراً في هذا المجال، والمشكلة سياسية أكثر منها دينية. وإحدى المشاكل أن أخوية الفرنسيسكان ومنذ زمن طويل قرروا أن قرية كفركنا هي قانا حيث تمت أعجوبة السيد المسيح الأولى، بينما نحن مؤمنون ومقتنعون بأن قانا الجليل هي قانا في لبنان، وهنالك وثائق ودراسات عدة ثبت هذا الأمر والفاتيكان لم يبت في الأمر لأسباب سياسية أكثر منها دينية».
وحول المطالبة بوجود أكثر فاعلية للكنيسة يشدد أبرص على أن «الأب بطرس عطالله راعي كنيسة قانا موجود طوال أيام الأسبوع في قانا، لكن المشكلة أن كنيستنا بعيدة عن المغارة وعن الأجران، ولذلك السياح الذين يأتون يتوجهون مباشرة إلى المغارة، وهذا ما قد يفسره البعض بغيابنا عن المقام. ولكن ومع هذا لا يوجد أي إشكال لدينا بتكثيف حضورنا، وزيادة تمويلنا ودعمنا. ونحن في صدد محادثات مع بلدية قانا للتباحث في الأعمال التي بإمكاننا القيام بها لتفعيل السياحة في المكان».


Holy Lebanon أول تطبيق للسياحة الدينية
التطبيق مجاني باللغة الإنكليزية، وهو مشروع وطني شامل يشمل كل لبنان ويغطي 300 موقع إسلامي ومسيحي، ويجمع الكثير من المعلومات عن أماكن العبادة في لبنان ومعالمها لدى الطوائف المسيحية والإسلامية، ونبذة تاريخية عن كل موقع والشخصية الدينية المكرس لها، إضافة إلى الطقوس الدينية الشعبية التي يقوم بها المؤمنون في المقام، وكذلك الأطباق والحلويات التي تعد خلال المناسبات الدينية، كما يسلط الضوء على السكن والمطاعم في جوار المعابد الدينية، كما يتضمن رزنامة عن الاحتفالات والعطلات الدينية في لبنان.
* [email protected]