العالم بشموليته واتساعه، هو في النهاية قرار فردي. لكل منّا عالمه، على ضآلته، لكنه يتولد في أحيان كثيرة بقرار فردي. في مجال الاقتصاد والأعمال، لا يبدو الأمر مختلفاً جداً. القرار الشخصي، هو الذي يشّكل في نهاية المطاف ما سيكون عليه عالم المال والأعمال والشركات. إن كان من صفة طاغية لتطلق على القطاعات الاقتصادية في لبنان هذه الأيام، فهي...التوتر. الكل متوترون وموتورون. هل قدّر لكم أن تجالسوا رجل أعمال أو صاحب مال أو مشروع مؤخراً؟ هل تمعنتم في العصبية التي تحكم حركات الوجه واليدين والأرجل والتي لا يستطيع إخفاءها أحياناً كثيرة. هل لاحظتم المفردات التي تتكرر على لسانه من قبيل «سوء الحال، قلة المال، الخوف من المستقبل، الانهيار، تراجع الأعمال، الإفلاس...».
بات «النق» أمراً ملازماً لأي حديث في الاقتصاد والسياسية كما الأعمال. ارتفاع منسوب التوتر أصبح أمراً واضحاً لدى الجميع، حتى لدى أشخاص لم تكن تتوقع أن تسمع منهم يوماً كلاماً كالذي يقولونه. الأسباب لهذه الظاهرة عديدة، لا تبدأ بزحمة السير وتداعياتها على الجهاز العصبي والنفسي (حتى بوجود سائق)، ولا تنتهي بتشكيل الحكومة ومشكلات البلد الاقتصادية البنيوية.

أصبح التوتر في عصرنا اليوم ظاهرة عالمية تجتاح عالم الأعمال، وإن ظّن بعضنا أنها حالة فردية لا تتعداه. قضمت السرعة لذة التمتع بالبطء. في بريطانيا وحدها يقدّر تقرير حديث صادر عن الهيئة الصحية العليا أن عدد أيام المرض لدى العاملين الناجمة عن «التوتر، الكآبة والقلق» قد ارتفع بمعدل 32 % بين عامي 2009 و2017. كذلك يكشف تقرير صادر عن كلية الإدارة «روتمان» في تورونتو تم نشره العام الماضي، أن 41 %من الموظفين العاملين في كيانات اقتصادية مختلفة، تقدموا بالبلاغ عن معاناتهم من مستويات مختلفة من القلق المزمن. إن كان هذا واقع الحال في «العالم المتحضر»، فكيف سيكون الوضع في لبنان.
تتشعب الأبحاث في تفسير ظاهرة تنامي التوتر النفسي لدى الناس. سيقال الكثير، لكن يبدو أننا كبشر لسنا مهيئين كما قد نظن لهذا التدفق الهائل والمتواصل من المعلومات والأخبار من حولنا. هل نظرت في المرآة وأنت تسمع رنة التنبيه التي تعرفها حين تستقبل رسالة نصية؟ هل نظرت إلى رد فعلك حين تقرر الولوج إلى منصة من وسائل التواصل، أو قراءة بريدك الإلكتروني على الهاتف الذكي، أو حتى قيادة السيارة هرباً من مئات المعلومات التي تنتشر من حولك وتجتاحك رغماً عنك؟ لقد أثبتت الوسائل والأجهزة الحديثة، التي يتم تقديمها عادة على أنها أجهزة لتوفير الوقت، أنها مصدر للقلق. نعم.
تغيرت الحياة كثيراً في وقت سريع، كذلك تغيرت التوقعات العملية المرتبطة بها. زادت التفاصيل وتشعبت، وباتت مرهقة ومقلقة.
يبدو أننا كبشر لسنا مهيئين كما قد نظن لهذا التدفق الهائل والمتواصل من المعلومات والأخبار من حولنا


يوصف القلق بشكل تقليدي بأنه انعكاس للشعور المتمثل بعدم الراحة، التوتر أو الخوف. وعندما يصبح حاداً تصبح تأثيراته مساهمة في التسبب بإضعاف الأشخاص المصابين به. بعض الناس أكثر ضعفاً من غيرهم خلال الإصابة به، وفي مراحل معينة من حياتهم. هو ليس شيئاً يمكننا الحد منه بشكل كامل، بل يتحول في بعض الأحيان إلى شيء يساهم في تآكل الفرد.
كل المؤشرات تدل اليوم على تراجع بيئة الأعمال في لبنان، والأمر مرشح لمزيد من التأزم والتعقيد. بعيداً من العوامل الخارجية الكثيرة التي تؤدي إلى ما نحن عليه، باتت المشكلة تكبر داخلياً في كل واحد منا.
في عالم اليوم تؤمن الشركات برامج خاصة لمساعدة عمالها وموظفيها على التعامل بشكل أفضل مع ظواهر التوتر والقلق. وقد تم ذلك أيضاً في الصناعات المفرطة في المنافسة كالقطاعات المالية والتكنولوجية والاتصالات. أيقنت هذه الكيانات أن الاهتمام بالصحة العقلية للموظفين سيكون أمراً جيداً لتحقيق الأرباح.
لم يعد «تنبيه الذهن» طقساً يمارَس بشكل حصري من قبل الكهنة البوذيين وأتباعهم فقط، بل يتم تبنيه من قبل كبريات الشركات العالمية مثل «غوغل» و«أبل» و«سوني»، بهدف تشجيع الموظفين على التأمل والتركيز، وجعلهم بالتالي أكثر إنتاجية وقناعة في عملهم.
في لبنان اليوم أصبح القلق مرضاً يتنامى بين الكيانات الاقتصادية كافة، وبات معدياً. يصعب تغيير العالم، لكن قد يكون أسهل أن تغير عالمك الأصغر. قليل من الطاقة الإيجابية قبل Big Bang، لعلها تجدي.