قلة قليلة من اللبنانيين اليوم لا تزال مقتنعة بخبرية «لبنان الأخضر» والعالم الجميل الذي كانت تضفيه أغاني فيروز ووديع الصافي ورؤى الرحابنة عن بلد كان قبل أن يكون الكون نفسه. أصبح من الصعب جداً أن تقنع ولدك بالبلد، فكيف أن تسوّقه خارجياً. السياحة مؤشر على ذلك. ليس الحديث هنا عن أهمية هذا القطاع بالنسبة الى الاقتصاد الوطني، دوره التقليدي، ودور قطاع الخدمات الذي تميز به اقتصادنا الريعي لعقود. الحديث هنا عن نمط حياة مستجد. فلسفة اجتماعية باتت تتغلغل في تشكيل سلوكياتنا المستحدثة. السياحة كقرار ملزم.
في معرض حديثه عن القطاع السياحي، يضرب أحد أصحاب كبرى شركات السفر العاملة في لبنان منذ سنوات مقاربة لتوضيح وجهة نظره. يقول إن اللبناني كان معتاداً تاريخياً على الاصطياف بشكل سنوي. كان ذلك أمراً اعتيادياً عند الكثير من العائلات على امتداد الوطن الصغير، على الرغم من اختلاف مقدراتها المالية ومكانتها الاجتماعية وتوزيعها الجغرافي. كان لكل منهم طريقته في إيجاد الحل الذي يناسب وضعه الخاص. كان السفر إلى الخارج حينها مكلفاً، ومحصوراً بفئة معينة من ذوي الدخل المرتفع نسبياً. اليوم، أصبح السفر «رخيصاً» وبمتناول الجميع، فتغيرت القاعدة بشكل جذري.
قد يكون تراجع أكلاف السفر في البلد سبباً رئيساً في إقبال المهتمين عليه، لكنه ليس كل الحكاية.
تغزوك عروضات السفر على العالم الرقمي والافتراضي على مدار العام. المناسبات الترويجية باتت لا تنتهي، حتى لعيد المعلم أصبح هناك باقات مجهزة. لم يعد الأمر مقتصراً على موسم صيف أو بحر أو تزلج كما كان في السابق.
أصبح من النادر أن تجد لبنانياً لم يزر تركيا على سبيل المثال ولو لمرة واحدة. بـ 300$ فقط لا غير، أصبح بالإمكان أن تقضي 4 أيام في اسطنبول أو على شاطئ بحر إيجة متضمنة تذكرة السفر والإقامة الفندقية والنقل وحتى وجبة الإفطار. مبلغ هو أقل كلفة من عشاء سمك في أحد مطاعم بيروت لعائلة مؤلفة من 4 أشخاص.
في لبنان اليوم، إن قررت عائلة صغيرة (أب وأم وولدان) قضاء عطلة نهاية الأسبوع على الثلج في فاريا، فإنه مشروع لن تقل كلفة أيامه الثلاثة المفترضة عن 1200$ كمعدل وسطي. كيف ستنافس هذه الباقة المحلية نظيرتها في أوروبا، فزيارة بلد كأرمينيا أو حتى صربيا تكاد تكون أرخص أحياناً.
لا يشك أحد في أن العامل المادي هو المقرر الأقوى في خيارات الاستهلاك لدى أغلب الناس حول العالم، لكنه ليس الحاسم دوماً. نعم. يؤدي العامل النفسي دوراً لا يقلّ قوة في كثير من الأحيان.
في لبنان اليوم، هناك أغلبية يتزايد عددها لم تعد مقتنعة بالبلد كوجهة سياحية لها ولعائلاتها. ليس من الناحية المالية فحسب، بل إن شعوراً يتعاظم لدى فئة كبيرة من اللبنانيين بعدم جدوى السياحة الداخلية.
تساهم العوامل النفسية في إنتاج هذا النمط من التعاطي. تراجع إيمان اللبنانيين أنفسهم بوطنهم كوجهة سياحية. العامل النفسي حاسم في هذا المنحى. حتى «الضهرات» الاعتيادية باتت أكثر تكلفةً، ولم تعد في كثير من الأحيان كما كانت هدفاً جمالياً بحد ذاته. كثير من الناس اليوم يخرجون من بيوتهم تعبيراً عن ضغوط غير مرئية، لا طمعاً بأن يقصدوا مكاناً لصفاته الخاصة. بات الخروج «فشة خلق» غير مفهومة حتى لأصحابها، أحياناً كثيرة.
كثير من أولادنا في وقتنا هذا لا يعرفون الكثير عن معالم بلدنا الأثرية، أو عن العديد من المناطق التي كان ارتيادها في السابق يعدّ ملاذاً جميلاً لطفولة بريئة. على صغر البلد، كثير من مناطقه لا تزال مجهولة للكثيرين منا. حتى الطفولة أصبحت متطلبة أكثر من مجرد قضاء يوم تحت شجرة برفقة طابة وحبل، واللعب بالرمل مع الأقران. والسبب ليس مادياً فحسب. انفتح العالم على مصراعيه أمام أعينهم عبر الشاشات الصغيرة التي لا تفارق أصابعهم بحجج مختلفة. باتت المقارنات قاتلة بين ما هو قائم عندنا، وبين ما هو موجود لدى «الآخرين».
ومع كل ذلك، ليس السبب مادياً فحسب. حين يتراجع اقتناعك بشيء، يصبح من الصعب جداً أن تقنع به غيرك. إن لم تكن قادراً على إقناع طفل بأهمية طبيعة لبنان وجمالها بداية موسم الربيع، فلست لتلوم على ذلك وحيدك. لا يمكن أن تغيّر كلمات قليلة كثرة ما يسمع يومياً عن نفايات وأمراض وتوترات تحيط بنموه من كل صوب، فكيف ستقنع «غريباً» بأننا لا نزال قادرين كما كنا في السابق.
لا، لم يعد لبنان سويسرا الشرق، وهو لم يكن يوماً كذلك. كان الأمر نسبياً، وباتت المقارنة أصعب بكثير. زادت التنافسية وتخلّفنا عن الركب.
اليوم أحوج ما يكون الوطن إلى خطة استنهاض سياحية لأهله قبل الترويج لصحن تبولة هنا، أو جاط حمص بطحينة هناك، حتى لو حضر مندوبون عن «غينيس» الحفل. من كثرة الضغوط الداخلية، بات السفر متنفساً للتعبير عن غضب داخلي على أحوال بلد، تتلاشى ميزاته التفاضلية يوماً بعد يوم، أمام أعين أهله أنفسهم. وليست السياحة بعيدة عن ذلك، فلا تنتظروا الوافدين من الخارج، ولا تغرّنكم حركة المطار، فالمسافرون أضعاف أضعاف القادمين، والسياحة ليست مجرد أرقام.