مع انتقال المصرف إلى الهواتف الجوّالة ومع إمكان إتمام معظم المعاملات عن بعد وفي أي وقت وبأدنى كلفة من خلال وسائل متعددة، بات سهلاً الحديث عن تحوّل الفروع إلى «هياكل تاريخية». إلا أن ما يتجاهله المنظّرون لـ«وفاة» الفروع هو أن قوتها تكمن، تحديداً، في التاريخ وفي العادات التي ترسخت في عقول العملاء على مر عقود.بكل بساطة، يصعب إلغاء التقاليد بكبسة زر ومحو الذاكرة نهائياً وإعادة برمجتها من جديد. وكما أن الأطباء لا يفرضون على المدخّنين أو المدمنين على المخدرات أو الكحول قطيعةً نهائية وفجائية، فإن التحوّل إلى عصر الرقميّة المصرفيّة بالكامل لا بدّ أن يمر - بطريقة أو بأخرى - عبر الفروع.

فروع بمختلف الأحجام
تشغل المساحة المخصصة لموظفي البنك ومكاتبهم في الفروع التقليدية حوالى 70% من إجمالي المساحة، فيما النسبة المتبقية مخصصة للخدمة الذاتية. في المقابل، ستكون هذه النسب معكوسة في الفروع الذكية. إذ يكون التركيز على المساحة الممنوحة للخدمات الذاتية. من شأن نقلة كهذه أن تحدّ من أعداد موظفي الفروع باستثناء الرئيسية منها، وهو ما سينعكس أيضاً على حجم الفروع والمهام المنوطة بكل منها وأماكن انتشارها الجغرافي.


على سبيل المثال، وكما يبيّن الجدول، فإن «الفروع المربّعة» التي لا تتعدى مساحتها 10 أمتار مربعة ستكون مثالية للمناطق النائية والريفية، إذ إنها لن تحتاج إلى موظفين لتسييرها ما يحدّ من التكاليف على المصارف ويساعدها على الوصول إلى أكبر شريحة من المواطنين. أما الفروع الكبيرة، التي تشكل الأغلبية في الوقت الراهن في معظم الدول ويتعدى عدد الموظفين فيها الثمانية، فيرجح أن تشكل 5% من شبكة الفروع في المستقبل، وأن تكون محصورة بالمناطق الحضرية الضخمة ذات الحجم الديموغرافي الكبير، على أن تكون الحصة الأكبر من الفروع (85%) لتلك التي توظف بين 3 و4 موظفين ولا تتخطى مساحتها 140 متراً مربعاً، وتدمج بين الخدمات الذاتية المتوفرة على مدار الساعة والمساعدة البشرية المتخصصة.

الداتا والشخصنة
سنونوة واحدة لا تصنع الربيع. كذلك فإن التكنولوجيا وحدها لا تجعل من أي فرع، حكماً، فرعاً ذكياً. فالهدف من استخدام التكنولوجيا سيكون منصبّاً على شخصنة تجربة العميل إلى أقصى حد ممكن وجعلها سلسة ومتّسقة وسريعة، بحيث لا يشعر بأي فرق حين يجري معاملاته في الفرع مقارنةً بالمعاملات التي يمكنه إنجازها رقمياً.
في الفروع الذكيّة لا تلعب التكنولوجيا دوراً تكميلياً لممارسات تقليدية قائمة بقدر ما هي أداة تغيير شاملة لمنظومة العمل بأكملها. بالتالي، لن يكون للمعاملات الورقية والإجراءات البيروقراطية مكان في مثل هذه الفروع التي ستكون استباقية في تعاطيها مع العملاء وتركز على احتياجاتهم الخاصة، على عكس الفروع التقليدية التفاعلية في تعاطيها والموجهة نحو الخدمات.
ستشكل الفروع التي يتخطى عدد موظفيها الثمانية 5% فقط من شبكة فروع المصارف في المستقبل


استناداً إلى هذه الأسس، فإن موظفي الفروع سيكونون متعددي المواهب والاختصاصات، حيث ستقلّ الحاجة إلى أمناء الصندوق، وستتركز مهام الموظفين في التحليل ودراسة البيانات الخاصة بالعملاء لتقديم خدمات شخصية ونصائح موجهة لكل فرد بحسب احتياجاته. في هذا السياق، سيكون موظف المصرف على بيّنة من تفاصيل الملف الشخصي للعميل بمجرّد دخوله إلى الفرع ومن دون الحاجة للاستفسار منه عن أي معلومات شخصية أو راتبه أو وظيفته أو تاريخه المالي والائتماني. فلنفترض السيناريو التالي: في تعاملنا الحالي في الفروع، لن يعلم الموظف إن كان العميل بحاجة لقرض سيارة ما لم يسأله الأخير عن الموضوع ويستفسر عن الخدمات والتسهيلات التي يوفرها المصرف في هذا المجال. وفي حال افترضنا أن الموظف سيفاتح العميل بالقرض وتبيّن له أنه لا يحتاج له أو أنه يملك سيارة، فإن الأمر سيكون مجرد هدر للوقت من دون أي منفعة. لكن في التصور المستقبلي القائم على دراسة البيانات، فإن الموظف سيعلم فور دخول أي شخص إلى المصرف، من خلال تنبيه إلكتروني يكشف هوية العميل وملفه، إن كان هذا العميل يملك سيارة أم لا، وبالتالي إن كان هنالك من داع للحديث معه عن القرض.


إضافة إلى ما سبق، ستضم الفروع الذكيّة (وهو ما بدأت تعتمده بعض المصارف حول العالم) غرفة خاصة لمؤتمرات الفيديو بشكل سري وآمن، تلبي بشكل أساسي الشركات الصغيرة والمتوسطة والأفراد ذوي الاحتياجات المعقدة مثل القروض العقارية. ومن خلال الفيديو، بإمكان العملاء - في أي وقت - الحصول على المشورة التقنية الدقيقة وفتح خطوط ائتمان أو توقيع ضمانات معيّنة وتحديث تفاصيل عملهم، من دون أن يستنزفوا وقت الموظفين المحدودي العدد في الفرع، والذين يفترض أن يكونوا منكبّين على تلبية احتياجات باقي العملاء الأقل تعقيداً.


مصارف ضيافة
على أهمية النواحي العمليّة في تطوير دور الفروع وجعلها أكثر مواءمةً للمستقبل المصرفي وتطلعات العملاء، خصوصاً الشباب منهم، فإن روحية الفرع في حدّ ذاتها تتطلب إعادة توجيه. فمهما تمت أتمتة الفرع وجعله رقمياً وحديثاً سيبقى بالنسبة إلى الناس مكاناً مخصصاً لإجراء معاملات مالية. وهي، بطبيعة الحال، ليست أكثر الأمور متعة التي يطمح الشخص إلى القيام بها. بالتالي، بدأت الكثير من المصارف حول العالم تشعر عملاءها بأن فروعها هي مكان للاسترخاء والاستجمام والراحة، حيث يمكنهم التلذذ بقهوة مجانية في مقهى مخصص لتقديم هذه الخدمة من ضمن الفرع و الاستفادة من إنترنت مجاني والاستلقاء على كراسٍ مخصصة لإشعارهم بالراحة أو حتى توفير مكتبة صغيرة لهم للمطالعة...