وكأنه لا يكفي العراق الوضع الأمني المتدهور وتداعيات النزاعات والأزمات السياسية، حتى أتت الخلافات بين حكومة بغداد المركزية واقليم كردستان لتصب الزيت على النار، وتنقل الصراع من السياسة الى الاقتصاد، بما بات يهدد القطاع المصرفي ويزيد من مخاطر الاستثمار في أرض الرافدين. وفي انتظار نتيجة «الكباش» الحاصل، فإن المصارف هي المتضرر الأكبر.
إعلان المصرف المركزي العراقي أن فرعيه في أربيل والسليمانية لم يعودا مرتبطين به إدارياً أو تنظيمياً أو مالياً قرار سياسي بامتياز مغلف بقشرة مالية. وفي ظل هذا الواقع فإن «كل المصارف، بما فيها اللبنانية، باتت أسيرة هذه الأزمة» بحسب رئيس جمعية المصارف اللبنانية جوزف طربيه. فالمصارف اللبنانية تودع في فرعي المركزي العراقي في اربيل والسليمانية نحو 90 مليون دولار، وهي مضطرة في حال عدم تراجع المصرف المركزي العراقي عن قراره الى تكوين مؤونات على المبالغ المودعة قبل نهاية العام الجاري، الأمر الذي قد ينعكس سلباً على ربحيتها.
«كل المصارف في العراق،
بما فيها اللبنانية، باتت أسيرة
هذه الأزمة»

«المشكل سياسي والحل سياسي»، وفقاً لطربيه الذي يؤكد مساعي جمعية المصارف لمراجعة السلطات العراقية واقناعها بأن هذا القرار سيضر بالمصارف العاملة في العراق نظراً الى أن المبالغ العالقة في هذه الحالة ستعتبر «مشكوكاً في تحصيلها»، وهو ما سيرتّب خسائر على المصارف.

النفط والأرض والمصارف بينهما

الخلاف المالي كبير بين الدولة المركزية واقليم كردستان بحسب السياسي العراقي أبو ميثم الجواهري. فالاقليم يصدر ويبيع يومياً ما مجموعه 500 ألف برميل نفط ولا يقوم بتسديد وتسليم المبالغ الى الحكومة المركزية، والأمر ذاته ينطبق على إيرادات المنافذ الحدودية، ومع ذلك يطالب الحكومة المركزية بدفع المستحقات للشركات التي تستخرج النفط، إضافة الى رواتب البشمركة والموظفين. ويرى الجواهري أن بعض الأطراف في الإقليم تسعى الى افتعال أزمة مع بغداد «لتوحيد الموقف الكردي تحت رايته، ودغدغة مشاعر الأكراد حول توسيع منطقة كردستان وهو ما شاهدناه في سنجار».
المعطيات ذاتها يؤكدها الباحث العراقي جواد الحكيم الذي يعتبر أن «الأكراد يسعون للتقسيم بهذه الطريقة، وهم قطعوا مراحل للانفصال عن الدولة الأم».

بغداد تستفيد من «داعش»

يرى الحكيم أن «داعش» وانخفاض اسعار النفط فرضا على الأكراد إبطاء مساعيهم الإنفصالية ومحاولة التقرب من جديد من الحكومة المركزية نظراً لأنهما أثرا على خزينة كردستان التي لم تعد تستفيد من الموارد الأخرى ــــ غير النفط ــــ التي كانت توفرها بغداد. ويعتبر أن القرار يمكن أن يشكل محاولة ضغط إضافية على الأكراد ويساهم في إعادتهم الى حظيرة الحكومة المركزية. في السياق نفسه يعترف الصحافي الكردي عمر فرهادي بأن الإقليم هو المتضرر الأكبر من القرار، خصوصاً أنه جزء من العراق بحسب الدستور والقوانين، كما أن عوامل جغرافية وسياسية واقتصادية عدة تجعل منه الحلقة الأضعف، رغم قدرته على المناورة.

المصارف اللبنانية باقية

يعرب طربيه عن تفاؤله بأن المسألة مسألة وقت قبل أن تجد بغداد وإقليم كردستان الحل، «فلا يمكن ألا يجدا تسوية للموضوع». ويلفت الى أن المصارف اللبنانية «أخذت في الإعتبار مخاطر العمل في العراق الذي لا يزال يلملم ذيول الحرب والانقسامات الداخلية. ونحن قررنا مواجهة هذه المخاطر وسنتحمل مسؤولياتنا. فعملية خروج مصرف من سوق معينة ليست خياراً جيداً نظراً لصعوبتها، خصوصاً بعد أن يكون المصرف قد قضى سنوات من العمل لكسب ثقة عملائه، إضافة الى أهمية الودائع التي يوّظفها في السوق».
ويجمع كل من الجواهري والحكيم وفرهادي على أن الحل من مصلحة الطرفين.
السوق العراقية سوق واعدة وتختزن العديد من فرص الاستثمار، لكنها في الوقت عينه لا تزال تشكو من مخاطر عدة، وخاصة على الصعيد المصرفي، نظراً الى غياب ثقافة التعامل مع المصارف لدى الجمهور العراقي الذي يلجأ في غالبيته الى الاحتفاظ بمبالغ نقدية كبيرة خارج النظام المصرفي، اضافة الى اعتماد الاقتصاد العراقي بشكل رئيسي على النقد وتمركز الودائع في المصارف الحكومية، عدم استقرار توجيهات السلطة النقدية... وفي ظل كل هذه الصعوبات التي تواجهها المصارف، يأتي الخلاف السياسي بين بغداد واربيل ليزيد من معاناة هذا القطاع... فهل يشكل الاقتصاد جسر العبور نحو الحل السياسي في بلاد ما بين النهرين؟