بعد الفشل الذريع الذي بلغته مباحثات جنيف حول اليمن، تبدو كل المعالجات تأتي في إطار إدارة الأزمة فقط. في اجتماع مجلس الأمن الدولي أمس، أعرب الأعضاء عن قلقهم البالغ من تدهور الأوضاع الأمنية والمعيشية والاقتصادية في اليمن، الأمر الذي يهدد بتحويل هذه الدولة الفقيرة إلى ساحة صراع تستفيد منها أولاً التنظيمات الإرهابية المسلحة. ودعا الأعضاء إلى دعم العملية السياسية بكل السبل، لأنه لا يوجد حل عسكري للنزاع، إلا أن النداءات بقيت مجرد تفريغ شحنات الإحباط من غياب الانتصارات الحاسمة لهذا الفريق أو ذاك.
وتحدث في الجلسة كل من المبعوث الدولي إلى اليمن، اسماعيل ولد الشيخ ومساعدة الأمين العام للشؤون الإنسانية، كيونغ وا كانغ، والمفوض السامي لحقوق الإنسان زيد بن رعد الحسين وبقية أعضاء المجلس.
ومن اللافت أن الولايات المتحدة التي تتولى رئاسة المجلس هذا الشهر، حرصت على أن تبقى الجلسة مفتوحة، حيث درجت العادة أن تقفل بعد الإحاطة الدورية التي يقدمها ولد الشيخ مرة كل ٦٠ يوماً. وقُرئ الموقف الأميركي بأنه تعبير عن نفاد صبر القوى الكبرى من تعثر الحلول بعد تجاوز النزاع ٩ أشهر. ونظر إليه على أنه ضغط مكشوف على السعودية وحلفائها من أجل الدخول في مفاوضات جدية مع أطراف صنعاء لإيجاد حل للنزاع يخفف الخسائر، عقب الإخفاق الذريع في التوصل إلى نتائج إيجابية في اجتماعات سويسرا المتأخرة كثيراً. ولم تعد الأمم المتحدة قادرة على السكوت عن الوضع الإنساني المأسوي في العديد من مناطق اليمن. ويشعر الأمين العام شخصياً بأن السعودية لا تزال تراوغ وتتجاهل نداءاته، ما يرتد على سمعة المنظمة نفسها، وقد باتت تُتهم بالتواطؤ والسكوت عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في اليمن. وقد تلطخت سمعتها كثيراً بعد انكشاف تغلغل العناصر الاستخباراتية ضمن فريقها الذي يترأسه ولد الشيخ، فضلاً عن اتهامه بالولاء المطلق للرياض. وربما شعرت الأمانة العامة بأن الوقت قد حان لتغييره، لكنها تريد في الوقت نفسه إبقاء قناة اتصال مع الرياض لإيجاد حل عندما تشعر السعودية بالفشل التام.
انعكست انتهاكات قوات «التحالف» للهدنة سلباً على وساطة ولد الشيخ

وفي صنعاء، بدت صورة الأمم المتحدة قاتمة لأبعد الحدود. كانت وعود الشيخ بوقف القتال خلال فترة مفاوضات جنيف خديعة بنظر قادة الأحزاب اليمنية، كما عبروا في وسائل إعلامهم، إذ إن الغارات لم تتوقف بتاتاً. ولاحظوا تركيز ولد الشيخ على الوضع الإنساني في محافظة تعز التي تعدّ «بيضة القبان» في هذا النزاع. فمن يسيطر على تعز يضمن الجنوب وبوابة الشمال، لذلك تخدم الهدنة فيها الطرف السعودي. لم تستطع كل القوات الإقليمية والمرتزقة من كولومبيين وسودانيين وإماراتيين إحداث أي ثغرة في تلك المدينة. فكان تركيز ولد الشيخ على الجانب الإنساني من أجل حصول مقاتلي «التحالف» على هدنة تتيح لهم تثبيت المواقع التي يسيطرون عليها وجلب التعزيزات، كما فسرها «أنصار الله» وحزب «المؤتمر الشعبي العام».
في المقابل، شن التحالف السعودي أثناء المفاوضات هجوماً مزدوجاً على محافظتي حجة والجوف المتاخمتين للحدود السعودية من أجل تعزيز شروطه التفاوضية. هذه الخطوات انعكست سلباً على وساطة ولد الشيخ الذي وعد بإجراء جولة مفاوضات جديدة منتصف الشهر المقبل في دولة أفريقية هذه المرة، وبإنشاء غرفة تنسيق عسكري في دولة إقليمية من أجل ضمان وقف النار، وتبادل الأسرى، ورفع الحصارات المتبادلة، بما في ذلك الحصار البحري والجوي المفروضين على اليمن. هذا الحصار المستمر منذ آذار الماضي لم يجد سبيلاً لرفعه بعد، مع أن السعودية تعهدت بوضع آلية تفتيش ترعاها الأمم المتحدة للتثبت من خلو السفن التجارية من السلاح. لكن هذه الآلية متعثرة بسبب حجب التمويل عنها من جهة، ولأن السعودية تمارس التفتيش من دون غطاء دولي من جهة ثانية. وكان يفترض أن يبدأ العمل بهذه الآلية قبل أشهر.
وحذر ولد الشيخ من تأثير خطير للأسلحة الثقيلة على الحدود اليمنية. وقال إن الفراغ الأمني أدى إلى تفشٍّ خطير للمتطرفين في أبين وشبوة والبيضاء وحضرموت وإلى سيطرة «القاعدة» على ميناء المكلا، وأعرب عن قلقه من اغتيال تنظيم «داعش» قادة يمنيين في عدن، على رأسهم المحافظ محمد جعفر سعد. وقال إن المباحثات في سويسرا جرت بعد دعم مع وزراء خارجية السعودية وعمان وإيران ومجلس التعاون الخليجي، وبعد تشاور مع الرئيس الفار عبد ربه منصور هادي في عدن، ولقاء بنائبه خالد بحاح، كذلك أجرى مشاورات مع ممثلي أحزاب صنعاء في مسقط. وفي ١٥ أيلول اجتمع في بلدة ماغلينغن (ماكولين) في سويسرا بناءً على مرجعية المبادرة الخليجية، وأعرب الحوثيون وغيرهم عن الاستعداد لوقف شامل للنار، بحسب ولد الشيخ الذي أكد أن دول في المنطقة و«التحالف» أعربت عن تأييد وقف الأعمال القتالية. وعلم بإعلان وقف الأعمال في ١٥ كانون الأول الجاري. وتواصلت لجنة التنسيق المشتركة المؤلفة من الطرفين، فضلاً عن ممثلين عن الأمم المتحدة مع القيادات العسكرية وتم إحراز بعض التقدم. لكنه أعرب عن أسفه لعدم تحقيق وقف القتال. لذا طلب دعم الاتفاقات من قبل أعضاء المجلس، فضلاً عن إيجاد آليات صلبة تفرض التزام الاتفاقات، على أن يكون مقر لجنة التنسيق الأمني في المنطقة من دون تحديد المكان حتى الآن.
على الصعيد الإنساني، قال إن الجميع التزموا ضرورة إدخال المساعدات، داعياً المنظمات الإنسانية إلى الانضمام إلى المفاوضات. ورحب بدخول قافلة كبيرة من المساعدات في ١٧ كانون الأول الجاري إلى تعز تنقل الغذاء والوقود. ورغم فقدان الثقة من الجانبين رحب بأن مشاورات سويسرا تمخضت عن تفاهم مشترك حول إطار تفاوضي يتيح آلية حل سياسي منظم. وأضاف أن الاتفاق تم على أن يكون الإطار أساس الجولة المقبلة للمباحثات سيقدم ركيزة لاتفاق سياسي جامع يساعد على رسم إطار فعال نحو السلام ومرحلة انتقالية بالتفاوض، ولم ينفِ أن الطريق طويل وشاق، وطلب دعم المجلس للضغط من أجل وقف شامل للنار يسبق المفاوضات.
بدوره، أعرب المفوض السامي لحقوق الإنسان، زيد بن رعد الحسين، عن القلق من تردي أوضاع اليمن المعيشية، محذراً من أن اليمن مهدد بالتمزق وبأن يصبح مرتعاً للإرهاب الذي يهدد سلام المنطقة واستقرارها. ودعا إلى معالجة سريعة لأوضاع اليمنيين المعيشية وإلى تسريع الحل السياسي. وقال إن الحياة باتت في غاية الصعوبة لغالبية اليمنيين، و٨٠ في المئة يعتمدون على المعونة ونصف اليمنيين يعانون سوء التغذية. كما حصل تدمير عام واحتجاز تعسفي من كافة الأطراف، لافتاً إلى أن الأطفال تحملوا وزر النزاع أكثر من سواهم. أضاف أنه قدم تقريراً عن انتهاكات للقوانين ودعا للتحقيق المستقل ومحاسبة الفاعلين وأن مكتبه بصدد مواصلة إحصاء الانتهاكات الإنسانية وأنه يواصل حث الأطراف على احترام القوانين ومبادئ حقوق الإنسان وأن يتعاونوا مع فريق الاستجابة الإنسانية. ورحب بقرار حكومة اليمن تشكيل هيئة تحقيق. اتهم الجميع بما في ذلك التحالف بالقصف العشوائي من الجو والبر.
الجدير بالذكر أن السعودية كانت قد مارست ضغوطاً في مجلس حقوق الإنسان بعدما قدمت هولندا وثيقة من أجل إصدار قرار في المجلس في ٢٤ أيلول الماضي يتعلق باليمن. الوثيقة سحبت بعد ممارسة السعودية عمليات ترغيب وترهيب مبنية على علاقات مالية وتجارية مع الدول الأعضاء. واستعيض عن الورقة بأخرى قدمتها دول مجلس التعاون الخليجي تدعو المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى تقديم مساعدة تقنية لتحقيق تجريه حكومة هادي وجرى تبنيها.
وحذرت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية من تردي الأوضاع المعيشية في اليمن إلى درك جديد وسط نقص فادح في المياه والغذاء والطبابة والدواء وطرق الإمدادات. وقالت إن «السلطات عاجزة عن تأمين الخدمات أو حتى دفع الرواتب لعمال الصحة». وأشارت إلى أن المرضى لا يجدون العلاج الأساسي خصوصاً للكلى والأمراض المزمنة. وقالت إن الغارات التي يشنها التحالف، ولا سيما في المحافظات الشمالية مثل عمران وحجة أدت إلى دمار شامل. ووصفتها بأنها انتهاك للقوانين الإنسانية الدولية، لكنها رحبت باستئناف دخول السلع التجارية وتخفيف الحصار. وتوقعت بدء آلية التفتيش الدولية في منتصف كانون الثاني بعد تأخر طويل عن موعده.
الولايات المتحدة رأت أن المجلس متحد بشأن اليمن في دعم العملية السياسية بقيادة ولد الشيخ. وقالت سمانثا باور في كلمتها إن وقف النار تأخر كثيراً. ودعت كل الأطراف إلى رفع الحصارات وإدخال المساعدات، ولا سيما عن عدن وصعدة وتعز. وأكدت أن واردات الطعام عادت إلى وضعها الذي سبق النزاع. كذلك دعت إلى تسريع بدء عمل آلية التفتيش. وأضافت باور أن المجلس أكد أن الحل يجب أن يكون «سياسياً قائماً على الإجماع والحوار بالتفاوض مع تنازلات صعبة وإظاهر مرونة وتجاوز الاستفزازات». وأخيراً طلبت أن يعرب الجميع عن التزامهم وقفاً للنار من دون تأخير، ولا سيما أن وقف النار الأخير «كان قاصراً» بحسب تعبيرها. وحثت التحالف السعودي على وقف «الغارات العشوائية».