في الأسابيع الأخيرة، كانت الهند تحقّق أرقاماً قياسية في عدد الوفيات من فيروس «كورونا» بشكل يومي. وقد بلغ معدّل الوفيات، في الأيام الأخيرة، الـ3500 حالة، فيما لا تزال الحالة الوبائية الكارثية تثير تعاطف معظم البلدان والشعوب حول العالم، الذين شاهدوا السكان يموتون على أبواب المستشفيات المتهالكة، لا سيما في العاصمة نيودلهي. على إثره، سارعت أكثر من 40 دولة، حتى الآن، إلى إرسال المساعدات للحكومة الهندية.
وقد ساهمت عوامل عدة في هذه الطفرة، فبين شهر آذار وأوائل نيسان، وبعد أن ظنت الجهات الرسمية أنّ الوباء بات تحت السيطرة، قامت بإجراء انتخابات في مختلف الولايات الهندية، وسمحت بالتجمعات والمهرجانات الانتخابية الضخمة، إضافةً إلى الاحتفالات الدينية الأخيرة في نهر «الغانج» المقدّس. أضف إلى ذلك السلالات الجديدة المتفشية حالياً في البلاد وأبرزها المتحور البريطاني والمتحور الهندي المزدوج.

وتوازياً مع هذه الكارثة الانسانية، تركّزت الأنظار، بشكل خاص، على الولايات المتحدة، ومساعدتها لحليفتها، والتي وجد بعض المراقبين أنها جاءت متأخرة، وتداعياتها على العلاقة بين الطرفين: حتى الأحد الماضي، ظلّت الولايات المتحدة، التي لا توفر عادة فرصة للتغني بـ«العلاقة المتينة مع الهند، الشريك المهم في استراتيجية واشنطن في الهند والمحيط الهادئ»، متمسكة بسياسة «أميركا أولاً». سياسة انتهجها الرئيس السابق، دونالد ترامب، وفرض على إثرها حظراً على تصدير المواد الخام لتصنيع اللقاحات إلى الهند، واستكملته إدارة الرئيس الحالي، جو بايدن، لتمتنع بدورها طوال هذه الفترة عن تصدير اللقاحات والمواد الأولية للبلد الذي بات في المرتبة الثانية من بين الدول الأكثر تضرراً من الوباء في العالم، والذي كان يناشد رفع هذا الحظر منذ منتصف نيسان.

موجة واسعة من الانتقادات
منذ أسبوع، جاء ردّ المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد بريس، لدى سؤاله عن إمكانية رفع الحظر الأميركي عن تصدير المواد الخام من الولايات المتحدة إلى الهند لمساعداتها في تصنيع اللقاحات واحتواء كارثتها الصحية، كالتالي: «لدينا مسؤولية خاصة تجاه الشعب الأميركي»، وأضاف: «ليس من مصلحتنا وحدنا أن نرى الأميركيين يتلقون اللقاح، بل من مصلحة العالم بأجمعه أن يرى الشعب الأميركي يتلقى اللقاح».

في الأثناء، كان الانهيار المتسارع للنظام الصحي في الهند والكارثة الانسانية فيها تثيران غضباً كبيراً، لدى الحكومة والشعب الهندي على حدّ سواء، وانصبّ بمعظمه، لا سيما عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على «الحليف الطبيعي» للبلاد، على خلفية ما اعتبره السكان نوعاً من احتكار اللقاحات والمواد، وخلْق مزيد من العراقيل وصمّ الآذان عن نداءات الاستغاثة المتكررة، بحسب موقع «ذا برينت» الإخباري الهندي. ومن أبرز مظاهر هذه المرحلة، بحسب الموقع، الحملات الإلكترونية التي شنها هنديون يطالبون برفع الحظر الفوري عن تصدير المواد الأولية، ومطالبة الأميركيين من أصل هندي في الولايات المتحدة إدارة بايدن بإرسال فائض لقاحات أسترازينيكا لديها إلى الهند.

ومن بين الآراء الأخرى التي وردت في الداخل الهندي حول هذا التأخير، ذكر موقع «فيرست بوست» الهندي (Firstpost) أنّ هكذا واقعة لن تسلط الضوء، مرة جديدة، على غياب «مفاهيم الزعامة الأخلاقية في عالم ديموقراطي» لدى الولايات المتحدة فحسب، بل قد تجعل العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والهند متوترة إلى حد يجعلها غير قابلة للإصلاح في المستقبل، ليصبح من الصعب، بالتالي، تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي تطمح إليها الولايات المتحدة مع الهند، لا سيما أنّ العام الماضي، وفي حين كانت الولايات المتحدة ما تزال تسجّل أكبر عدد وفيات في العالم، شحنت الهند إلى الولايات المتحدة 50 مليون قرص من دواء «هايدروكسي كلوروكين»، الذي كان يرجّح أن يكون نافعاً في الحد من الحالات الخطرة. ويضيف الموقع أنه، آنذاك، أثارت هذه الخطوة انتقادات واسعة في الداخل الهندي، فيما قال ترامب إنّ الولايات المتحدة «لن تنسَ الشعب الهندي أبداً» وأنّ «العلاقة بين البلدين أقوى من أي وقت مضى».

كذلك، قال مدير «مبادرة مستقبل الهند وجنوب آسيا» في معهد «هدسون» في واشنطن، لصحيفة «واشنطن بوست»، إنّ «تأخر استجابة الولايات المتحدة للأزمة الإنسانية في الهند أمر مؤسف». وأضاف: «تؤدي هكذا حوادث إلى تعزيز الحجة في الداخل الهندي بأنّ الاستقلال الذاتي الاستراتيجي هو الطريق الأمثل للاستمرار، لا المزيد من المواءمة مع الولايات المتحدة».

وأمام هذه الأزمة التاريخية، بدأت الدول بتقديم المساعدات تباعاً، والصين كانت قد أرسلت وحدها، بداية الأسبوع الماضي، نحو 800 «مكثّف» أوكسيجين، وتعهّدت بإرسال 10 آلاف منها خلال الأسبوع، كما ازداد الطلب بشكل كبير على المواد الطبية من جميع أنحاء الصين إلى الهند. وبحسب وسائل الإعلام الصينية، ومنها صحيفة «غلوبال تايمز»، إنّ تهافت الدول لمساعدة الهند، هو ما دفع بالرئيس بايدن، الأحد، إلى الإعلان عن بدء إرسال المساعدات إليها ورفع الحظر عن المواد الأولية.

في هذا السياق، أكد محلل العلاقات الدولية البريطاني، توم فودي، للصحيفة إنّ «اندفاع أوروبا والولايات المتحدة إلى مساعدة الهند تقوده استراتيجيتهما الجيوسياسية في الهند والمحيط الهادئ». ويضيف: «تريد الولايات المتحدة استخدام الهند كأداة لمواجهة الصين، أكثر من اهتمامها الصادق بالشعب الهندي».

الولايات المتحدة تبادر أخيراً

وصلت، الجمعة، طائرة الشحن العسكرية «سوبر غالاكسي» المحملة بالمساعدات إلى الهند. وتحتوي المساعدات على نحو 400 أسطوانة أوكسجين، إلى جانب معدات المستشفيات الأخرى ونحو مليون من معدات الفحص السريع للفيروس (PCR). كذلك، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد بريس، الخميس أنّ «الولايات المتحدة تسلم شحنات تزيد قيمتها عن مئة مليون دولار من أجل تقديم مساعدات عاجلة في الأيام المقبلة لشركائنا في الهند».

في هذا الإطار، يؤكد الزميل المساعد في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، أمان تاكر، لصحيفة «بلومبرغ» أنّه «في حين كان يمكن لاستجابة بايدن البطيئة أن تكون أفضل، فما زالت الولايات المتحدة تمتلك الوقت لإنقاذ سمعتها»، فيما رأت الصحيفة أنّ هكذا لحظات تظهر كيف أنّ اختلال التوازن في عمليات التطعيم بين الدول الأكثر ثراءً والدول الأكثر فقراً من شأنه أن يعيد تشكيل الوضع الجيوسياسي مع بدء إعادة فتح بعض أجزاء العالم.

ويأتي هذا فيما لا تزال الدراسات تحذّر من أنّ احتكار اللقاحات بهذا النمط يقوّض مكافحة الوباء في العام. في هذا السياق، أظهرت آخر دراسة أجراها «المركز العالمي للابتكار الصحي» التابع لجامعة «ديوك»، أواخر نيسان، أنّه سيكون لدى الولايات المتحدة، بحلول شهر تموز، فائضاً بنحو 300 مليون جرعة من اللقاحات.

وبحسب تقرير المركز، لن تتمكّن أفقر 92 دولة في العالم، من بينها الهند، من تلقيح 60 في المئة من سكانها قبل عام 2023، في حال استمر توزيع اللقاحات بهذا النمط.

ويدفع هذا بخبراء الصحة حول العالم، من بينهم المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، إلى التحذير من مبدأ «قومية اللقاحات» هذا، واصفاً إياه بـ«الاستراتيجية المدمرة التي ستكبد العالم الكثير على صعيد الأرواح وسبل العيش.»