هنا التجمّع الصغير والإعلام القليل والكلام الصادق. هنا الوجوه التعِبة والعيون الواضحة تقول كلاماً لا يسع في يافطات. هنا الأيادي المشقّقة حملت غضباً عتيقاً وقالت لم نتعب بعد. هنا أمّهات العسكريين وأبناؤهم لن يرفعوا سوى العلم اللبناني. هنا الشباب والشابّات وصراحة اللغة واللهجة والمطالب. هنا هدير العمّال والمزارعين والمعلّمين والمنسيين. هنا تاريخ طويل من الخجل والطيبة المستَغلّة.
هنا تُحبس الدموع ويخفّ الاستعراض. هنا الساحة لا تغادرها الحياة مع مغادرة المعتصمين. هنا الغضب اليومي ورمزية الجباه المرفوعة. هنا وعي صامت لكلّ ما يُرتكب بحقّهم من جرائم. هنا الكابوس الحقيقي لأي سلطة فاسدة.

لأن «المسألة مسألة كرامة»، ولأن «نوّابنا باعوا أنفسهم وباعونا بشويّة زبالة»، ولأن المستضعفين هم «في كل مكان» جاؤوا من قراهم القريبة والبعيدة الى ساحة حلبا أمس. هو شعور بـ»الدونيّة»، قالت الصبيّة العشرينية، «لا يكفي أننا مهملون... بل عندما تقرر الدولة أن تتذكّرنا تفعل ذلك بتحويلنا الى مكبّ لنفاياتها».
«هو دليل آخر على خِسّة نوّاب منطقتنا... باعوا أصواتنا بزبالة»، تقول المرأة الغاضبة، العضو في إحدى البلديات. «صاحب المطمر قد يملك الأرض لكنه لا يملك الهواء... الهوا للناس»، تكرر السيّدة الأربعينية وترفض أن «تكون عكار حقل تجارب لمشاريعهم السامّة». «جئت الى هنا لأن المطمر في المنطقة المقرّرة سيحرمني من هواية الصيد أيضاً»، قال شاب عشريني بصراحة.
هنا الخوف على الأرض والمياه والهواء وهم لا يملكون سواها. هنا الحديث عن مليارات التنمية لا تبرق له العيون، بل يرجم بأقسى العبارات، لأنه أهان نفوساً كريمة.
«التنمية حقّ لنا لا يُسعّر ولا يباع»، تشرح ابنة بلدة حرار الخضراء المهملة، هي التي شاركت في تظاهرات بيروت لتغيير النظام الطائفي، «لا تثق بالدولة ولا بوعودها».

رفع عدد من رؤساء
البلديات دعوى بحق مالكي
مكب سرار


«بعض السياسيين ورجال الدين التابعين لهم قالوا للأهالي انزلوا الى الشارع علّ حراككم يزيد المبلغ المالي الذي خصّصته الدولة لعكار، بغضّ النظر عن موضوع النفايات»، نقل بعض المعتصمين الساخطين. «نحن نغذّي الدولة بدمائنا ولنا عندها مليارات»، يكرر الرجل الستّيني، رافعاً صوته ورافضاً كلّ قرش من دولة «لا تتذكّرنا سوى في الأزمات والانتخابات».
«توزيع النفايات غير عادل بين كافّة المناطق، ولن نقبل بسياسة الأمر الواقع»، يكاد يجمع المعتصمون. ومن شعاراتهم المرفوعة «حضرة النايب وسعادة الوزير... ما بدنا زبالة عنّا منكن كتير»، و»خدوا زبالتكن زي ما هيي».
يقول المسؤول الإعلامي في الحملة أمين رجب لـ»الأخبار»، إن الحملة مستمرة بحراكها السلمي حتى إيقاف المشروع، مصرّاً على «عدم الرضوخ لأيّ من العروض السياسية أو المالية»، وداعياً كل أبناء عكار إلى «الوقوف ضد السموم التي ستدخل الى مناطقهم».
يعتقد جوزيف عبدالله أن «مشكلة عكار مع الدولة هي مشكلة قديمة منذ عهد الامير فخر الدين»، لافتاً الى «الحقد التاريخي بحق عكار»، والى أن عكار «ليس لديها نواب، بل لديها موظفون زغار عند رؤوس الاموال الحاكمة في لبنان، وهم اعتقدوا أن باستطاعتهم أن يشترونا ويذلونا بـ رشوة 100 مليون دولار، لنتحمل نفايات الطبقة الفاسدة الحاكمة في لبنان».
من جهته، أكد رئيس بلدية منيارة طوني عبود أن بلديات عكار تتعرض لضغوط سياسية كبيرة للرضوخ والقبول بنقل النفايات الى عكار، مطالباً بإنشاء معمل لفرز نفايات عكار التي تصل الى 400 طن يومياً، والتي تلقى في مكبّ عشوائي في سرار، «فكيف إذا أتوا لنا بنفايات بيروت؟».

الناشط عبدالله موسى ألقى بياناً باسم حملة #عكار_منا_مزبلة دعا فيه الى الاستمرار بالمشاركة في كل التحركات لإثبات «أن هذه السلطة فاسدة، وهمها الاكبر تفقير وتجويع عكار». وطالب البيان «بإنشاء معامل فرز نفايات على مستوى البلديات ومعامل إعادة تدوير وتحويل النفايات الى استثمار مالي»، متهماً بعض رؤساء البلديات ونواب عكار بأنهم أصحاب بيانات من فوق الطاولة، ومن تحتها يعقدون الصفقات على حساب أبنائهم وأهلهم في عكار.
وقال المحامي أحمد رجب «إن الضعف والترهيب لن يخضعا أبناء عكار»، مهدداً بإقفال هذا المكب بالقوة «كما أقفل مكبّ الناعمة».
من جهته، أكد رئيس بلدية عمار البيكات، وليد قاسم، رفض كل الالوان السياسية، معتبراً أن 100 مليون دولار هي رشوة مبطنة بحق عكار، ومشيراً الى تقديم عدد من رؤساء البلديات والمخاتير شكوى أمام القضاء اللبناني بحق مالكي مكبّ سرار، لكونه لا يصلح ليكون مكبّاً أو مطمراً، «لأنه لا يستوفي أياً من الشروط البيئية أو الصحية».
فُضّ الاعتصام بعد ساعة على وقع صوت يكرّر «يا حرامية ويا تجّار منّا مزبلة عكّار»، ويدعو إلى متابعة صفحة الحملة على فايسبوك، ولا ينسى «أحلى تحية للقوى الأمنية وللجيش اللبناني».
ماذا عن تحرّكات بيروت؟ بعض الشباب متحمّس للمشاركة يوم السبت، وآخرون قالوا «المتظاهرون في بيروت يمثلوننا... لو كان لدينا مكان للمبيت هناك لكنّا نزلنا وشاركنا في تظاهراتهم».