خليل صويلحفي تلك الليلة من خريف 1984، كنّا نزدحم في عتمة صالة «سينما الزهراء» لحضور العرض الأول لشريط «أحلام المدينة». كانت بكرات الفيلم تصل تباعاً من معمل الطبع، وتذهب إلى غرفة العرض مباشرة. كان يوسف شاهين في الصالة أيضاً. لقد أتى من القاهرة خصيصاً ليشهد على ولادة سينمائي جديد في سوريا، اسمه محمد ملص. هل كانت تلك الليلة الولادة الحقيقية لسينما المؤلف في سوريا؟ على الأرجح، فإنّ محمد ملص (1945) هو من دشّن هذا التيار في ذلك الشريط المبهر. في الحافلة المتجهة من القنيطرة إلى دمشق، نتعرّف إلى أرملة شابة هي ياسمين وطفل يدعى ديب. في بيت الجد، ستستيقظ مرارات الأم، وسطوة الجد ومخاوف الطفل.
ستتفتح سيرة العائلة وسيرة البلاد بعيني الطفل، وهو يشهد لحظة الاحتفال بذكرى عيد الجلاء، إلى اضطرابات الشارع السياسي في خمسينيات القرن المنصرم، مروراً بالانقلابات العسكرية، وانتهاءً بالوحدة السورية المصرية.
سيبقى صوت محمد قنديل يرنّ في الذاكرة «وحدة ما يغلبها غلّاب»، فيما يردد «أبو النور» أمام ديب وهو ينظر إلى القمر «حتى الله مع الوحدة». الطفل الذي يلتحق بمصبغة للثياب، يراقب بشغف صخب الشارع، وضجيج التظاهرات، وصور زعيم يذهب وآخر يأتي. زواج الأم القسري، سيترك ندبة لا تمحى في ذاكرة الطفل، كأن البخار المتصاعد في فضاء المصبغة هو ما يشوّش الرؤية في ما يخص مستقبل البلاد الغارقة في ضباب التطلعات الوحدوية. سينما محمد ملص هي سينما الذاكرة والحلم في تناوبهما على نبش وقائع حقيقية، وأخرى مشتهاة، وذلك لترميم ما هو مفتقد. بذرة «أحلام المدينة» تفتحت أولاً، في شريط قصير بعنوان «حلم مدينة صغيرة» أنجزه ملص خلال دراسته الإخراج في موسكو، ثم «قنيطرة 74»، ورواية «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب»، إلى أن وسّع فتحة الفرجار في «أحلام المدينة».

عن الانقلابات العسكرية والوحدة السورية المصرية
هنا يذهب السرد البصري إلى منطقة الحلم الموءود. الحلم الناصري في المقام الأول، وحلم استعادة مدينته المهدّمة. القفز في الزمن إلى الأمام للقبض على وقائع منهوبة، لم يمنعه لاحقاً من العودة إلى الوراء لفحص مطارح مسقط الرأس «القنيطرة». هكذا، رمّم صورة الأب الغائب في فيلمه اللاحق «الليل» (1992) من دون أن يفقد بوصلته الشاعرية في رسم أطلال المدينة، وإن بسرد بصري أكثر تعقيداً، كمحصلة لتفسير احتدامات الذاكرة، في استعادات مشوشة، فكان عليه أن يبنيها على نحو آخر.
في كتابه «كلاسيكيات السينما العربية»، وضع الناقد المصري علي أبو شادي، فيلم «أحلام المدينة» بين أهم عشرة أفلام أنتجتها السينما العربية خلال قرن، نظراً إلى أصالته التعبيرية، وقدرته على صوغ شهادة بصرية أخاذة بشاعرية مشبعة، وحميمية نادرة.
هكذا حصد «أحلام المدينة» عشرات الجوائز من «قرطاج» إلى «البندقية»، ليضع السينما السورية في مقامٍ مختلف. لن يتمكن صاحب «باب المقام» من إكمال ثلاثيته الروائية. إذ أُجهضت «سينما الدنيا» لأسباب رقابية، فاتجه مخرجنا إلى تحقيق مشاريع وثائقية، وسيناريوهات روائية تنتظر الفرصة كي ترى النور.


«أحلام المدينة»: 10 مساء 20 أيلول (سبتمبر) الحالي