عمر نشابةخلصت بعثة تقصّي الحقائق برئاسة الضابط الأيرلندي بيتر فيتزجيرالد في تقريرها الذي رفعته إلى مجلس الأمن الدولي في 24 آذار 2005 إلى أن «حكومة الجمهورية العربية السورية تتحمل المسؤولية الرئيسية عن التوتر السياسي الذي سبق اغتيال رئيس الوزراء السابق السيد الحريري. وقد مارست حكومة الجمهورية العربية السورية بوضوح نفوذاً تجاوز القدر المعقول في علاقات التعاون والجوار. وتدخلت في تفاصيل الحكم في لبنان بأسلوب جائر وعنيد كان السبب الرئيسي للاستقطاب السياسي الذي تلى. ودون الإضرار بنتائج التحقيق، من الواضح أن هذا الجو وفّر الخلفية لاغتيال السيد الحريري».

استخدم فيتزجيرالد تلك الخلاصات التي تمكّن من التوصّل إليها خلال أقلّ من شهر من التحقيقات (من 25 شباط حتى 24 آذار 2005) ليوصي بـ«ضرورة إجراء تحقيق دولي«يجريه فريق دولي» سيحتاج إلى سلطة تنفيذية لإجراء الاستجوابات والتفتيشات وغير ذلك من المهمات ذات الصلة». ويشير إلى استحالة نجاح التحقيق الدولي «ما دامت القيادة الحالية للأجهزة الأمنية اللبنانية بقيت في مناصبها». لكن قبل تعيين فيتزجيرالد ووصوله إلى بيروت ورفع تقريره عن الأوضاع في لبنان إلى مجلس الامن، كان رئيس مجلس الأمن السفير البنيني آدشي قد أدلى ببيان تضمّن إشارات استباقية لمرحلة التوتّر الداخلي التي شهدها لبنان منذ يوم اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فجاء في نصّ البيان، بعد سرد عبارات الإدانة والتعاطف، أن مجلس الأمن «يعرب عن أمله في أن يتمكن الشعب اللبناني من الخروج من هذا الحادث الفظيع موحداً».
على أي حال، طلب مجلس الأمن إلى الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي أنان «أن يقدم على وجه السرعة تقريراً عن الملابسات والأسباب التي أحاطت ﺑﻬذا العمل الإرهابي وما يترتب عليه من عواقب». ووقع اختيار أنان على فيتزجيرالد لرئاسة بعثة لـ«تقصي الحقائق» في بيروت.
وكان أنان قد اختار فيتزجيرالد في نيسان 2002 ليضمّه، إلى جانب الجنرال الأميركي بيل ناش، كمستشار أمني، إلى بعثة تقصي حقائق أخرى ارسلتها الأمم المتحدة إلى مخيم جنين لكشف ملابسات المجازر الإسرائيلية. وتبين لاحقاً أن تلك البعثة أجهضت مشروع قرار لإدانة إسرائيل كانت قد تقدّمت به الجمهورية العربية السورية. ففي 25 نيسان 2002، أعلن المتحدّث باسم البعثة فريد اكهارت أن «مجلس الأمن قرر إلغاء التصويت على مشروع القرار الذي تقدمت به سوريا نيابة عن المجموعة العربية».
بيتر فيتزجيرالد كان قد عين مفوّضاً للشرطة الدولية في البوسنة والهرسك في 1996 بعد وقوع مجزرة سربرنيتشا التي راح ضحيتها نحو 8000 مسلم على أيدي القوات الصربية. وعُين كذلك خبيراً أمنياً في لجنة السلامة والأمن لموظفي الأمم المتحدة في العراق عام 2003 إثر اغتيال المبعوث الأممي سيرجيوا فييرا دي ميلّو في عبوة ناسفة استهدفت مقرّ الأمم المتحدة في بغداد.
ويبدو من خلال ذلك أن وظيفة الضابط الأيرلندي غير المعلنة كانت المساهمة في معالجة نتائج الأحداث الأمنية المدويّة على نحو يخدم المصالح السياسة الأميركية من دون أن يؤدي عمله إلى أي نتائج فعّالة على المستوى العدلي والأمني. فالرجل شارك في لجنة تقصي حقائق في جنين عام 2002، عجزت عن إدانة الجرائم الإسرائيلية، لا بل أسهمت في تعطيل مساءلتها ومحاسبتها دولياً. وتولى الضابط الأيرلندي مركزاً أمنياً حسّاساً في البوسنة والهرسك أثناء تصاعد النفوذ الأميركي في البلقان منتصف التسعينيات
وعجز الخبير الأمني عن توفير الحماية لموظفي الأمم المتحدة في العراق المحتلّ عام 2003، بينما كان على تنسيق دائم مع القيادة العسكرية الأميركية في هذا المجال.
وبعد مرور عامين على مهماته في بغداد، اختاره أنان ليترأس لجنة تقصي الحقائق في جريمة اغتيال الحريري. وبادر الرجل إلى وضع خريطة طريق لتحقيقات ديتليف ميليس، مصدراً إدانة واضحة لسوريا وحلفائها في لبنان، في ما بدا متناسباً مع المصالح الأميركية والإسرائيلية.
قد يظنّ البعض أن في الأمر مجرّد صدفة، وأن الرجل اتبع منهجية مهنية في عمله، وأن طبيعة مهماته في فلسطين والبلقان والعراق مختلفة عن طبيعة عمله في لبنان. وهنا لا بد من استطلاع عمل بعثة تقصي الحقائق في جريمة اغتيال رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة بنازير بوتو التي أصرّ خلف كوفي أنان في الأمانة العام للأمم المتحدة، بان كي مون، على تعيين فيتزجيرالد عضواً فيها.
الجريمة التي وقعت في مدينة روالبيندي في 27 كانون الأول 2007، تجمعها بجريمة اغتيال الحريري قواسم مشتركة عديدة: انفجار انتحاري، شاحنة مفخّخة، استهداف رئيس وزراء سابق يتمتّع بشعبية كبيرة، توقيت الجريمة قبيل استحقاق انتخابي، علاقات معقّدة مع دول مجاورة... إلخ. هنا، ضمّ الأمين العام للأمم المتحدة كذلك، (بالصدفة أيضاً ربما) بيتر فيتزجيرالد إلى لجنة تقصّي الحقائق.
الرسالة التي بعث بها بان كي مون إلى مجلس الأمن الدولي في 3 شباط 2009، معرباً عن «اعتزام إنشاء لجنة تحقيق (...) اتُّفق على أنها ينبغي أن تكون لجنة تقصي حقائق في طبيعتها وأن تكون ولايتها تحديد وقائع اغتيال رئيسة وزراء باكستان السابقة بنازير بوتو وظروفه» أُرفقت بنصّ يحدّد «اختصاصاتها» (S/2009/67). أما بالنسبة إلى «بعثة تقصي الحقائق في ملابسات وأسباب وعواقب تفجير ١٤ شباط (2005) في بيروت»، فعملت وفقاً لبيان رئيس مجلس الأمن المؤرخ ١٥ شباط ٢٠٠٥ (S/PRST.2005/4) الذي اقتصر على «طلب مجلس الأمن إلى الأمين العام أن يتابع عن كثب الحالة في لبنان، وأن يقدم على وجه السرعة تقريراً عن الملابسات والأسباب التي أحاطت ﺑﻬذا العمل الإرهابي وما يترتب عليه من عواقب». وكان ذلك أحد الفوارق بين طريقة التعامل مع جريمتين استهدفتا رئيسَيْ وزراء سابقين.
لكن أبرز ما يشير إلى ازدواجية معايير الأمم المتحدة التي تجلّت في توظيف التحقيق في جريمة اغتيال الحريري في الأجندات السياسية للقوى الدولية، هو الآتي:
أولاً: إن البيان الرئاسي الذي صدر عن مجلس الأمن عشية اغتيال الرئيسة بوتو في روالبندي «يشدد على ضرورة تقديم مرتكبي هذا العمل الإرهابي الشنيع ومن قاموا بتدبيره وتمويله ورعايته إلى العدالة». ويؤكد أن «الإرهاب بجميع أشكاله وصوره هو أحد أكبر المخاطر التي تُهدد السلام والأمن الدوليين، وأن أي عمل إرهابي هو عمل إجرامي لا يمكن تبريره بصرف النظر عن دوافعه ومكان ارتكابه ووقته، ومرتكبيه». لكنه لا يطلب «إلى الأمين العام أن يقدم على وجه السرعة تقريراً عن الملابسات والأسباب التي أحاطت ﺑﻬذا العمل الإرهابي وما يترتب عليه من عواقب». ألا يشير ذلك إلى خطة مسبقة وضعتها القوى الدولية في مجلس الأمن لتوظيف تبعات جريمة 14 شباط سياسياً؟
ثانياً: انتظرت الأمم المتحدة حتى تلقيها طلباً من حكومة باكستان بإنشاء لجنة دولية بشأن اغتيال بوتو في شباط 2009 ليوجه الأمين العام رسالة إلى مجلس الأمن يطلق فيها عمل هذه اللجنة. وبالتالي فإن باكستان هي التي طلبت لجنة تقصي حقائق وحُدِّدت اختصاصاتها، بينما قرر مجلس الأمن فرض لجنة كهذه على لبنان من دون تحديد اختصاصاتها في مستند رسمي خاص بمجلس الأمن.
ثالثاً: استغرق عمل بعثة تقصي الحقائق في باكستان تسعة أشهر من العمل (من تمّوز 2009 حتى آذار 2010)، بينما اقتصر عمل لجنة تقصي الحقائق في لبنان على أقل من شهر، وكان بمتناول فيتزجيرالد في روالبندي عدد من التسجيلات بالصوت والصورة لوقوع الجريمة وما تبعها، وكان في المكان حشد كبير من الناس يمكن اعتبارهم شهوداً، وهذا كلّه لم يكن متوافراً في جريمة السان جورج.
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أبرز ما يثير الشكوك بشأن استخدام الجريمة لأهداف السياسة الأميركية والإسرائيلية من خلال الأمم المتحدة، وهو البيان الرئاسي الذي صدر عن مجلس الأمن أياماً بعد تأليف لجنة التحقيق الدولية التي اتهمت سوريا وحلفاءها باغتيال الحريري (4 أيار 2005) والذي ورد فيه حرفياً: «يرحب مجلس الأمن أيضاً بإحراز الأطراف المعنية لتقدم هام وملحوظ صوب تنفيذ بعض الأحكام الواردة في القرار ١٥٥٩، لكنه يعرب عن القلق إزاء ما خلص إليه الأمين العام من أنه لم يحرز أي تقدم في تنفيذ أحكام القرار الأخرى، ولا سيما نزع سلاح الميليشيا اللبنانية» (بالمفرد).