أول من أمس، «طارد» عناصر من قوى الأمن الداخلي المضرب عن الطعام يوسف الجردي (19 عاماً) ولحقوا به إلى مستشفى رفيق الحريري الحكومي، حيث نُقل بعد إصابته بتوعّك صحي. اقتادوه إلى مخفر بئر حسن وقاموا باستجوابه ومن ثم أطلقوا سراحه. تقول المحامية رانيا غيث، المتابعة لقضية الجردي، إنه استُجوب في سبب مشاركته في التظاهرات، في انتهاك واضح لحقوقه. تروي غيث أن المحقق قال للجردي قبل أن يُطلق سراحه: «بقص إيدي إذا إنت مأضرب عن الطعام، وإذا بعد بتنزل على الساحة منسحبك متل ما منسحب غيرك».
علماً أنها ليست المرة الأولى التي «يُسحب» فيها الجردي، إذ سبق لعناصر من أمن الدولة أن طاردوا الشاب أثناء ذهابه إلى ساحة رياض الصلح لشراء القهوة واحتجزوه واستجوبوه.
يقول المحامي ماجد فياض إنه إن كان هناك شكوك حول إذا ما كان المشتبه فيه أو المشكو منه متورطاً بأعمال مخالفة للقانون، وكانت حالته الصحية تسمح، فإنه يُستجوب، إلا أنه يحق له التزام الصمت وعدم الإجابة، «فإذا أُكره على الإجابة بأي صنف من صنوف التعنيف وضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة»، فإن ذلك يمثّل مخالفة صريحة للقانون من جهة، ومخالفة لاتفاقية منع التعذيب الدولية، إضافة إلى مخالفة الدستور الذي ينص على التزام ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان في جميع قوانينه وممارسته وفقاً للفقرة ب من مقدمة الدستور».
هذه «المطاردة» للمضربين عن الطعام والمتظاهرين تشكل دليلاً على انتهاج السلطة «سلوك» الترهيب والتخويف، وهذا يندرج ضمن جملة من المخالفات «الفاضحة» للقوانين التي وضعت صوناً لحريات المواطنين وحقوقهم. أبرز هذه المخالفات الإبقاء على احتجاز بعض المتظاهرين، من ضمنهم قاصرون، وتجاوز مهل التوقيف، فضلاً عن تعرض بعض الموقوفين، بشهادات من أُخلي سبيلهم، للضرب في مراكز الاحتجاز، وهو ما ينطبق عليه صفة التعذيب بهدف الترهيب أو تدوين محاضر غير صحيحة تتضمن الاعتراف بأعمال لم يرتكبها الموقوف.
بخلاف ما أعلن وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، في مؤتمره الصحافي الأخير عن وجود 18 موقوفاً فقط، تشير معطيات لجان المحامين الموكلين متابعة ملف الموقوفين، إلى وجود أكثر من 20 محتجزاً في المحكمة العسكرية. تقول المحامية نرمين السباعي إنه أُخلي سبيل شخصين من المحتجزين خلال جلسة السبت الماضي، بانتظار انتهاء التحقيقات مع جميع الموقوفين، لكونهم ضمن ملف واحد، ليجري العمل على إخلاء سبيل الجميع، مشيرة إلى أنه يجري الحديث عن انتهاء التحقيقات آخر الأسبوع الجاري.
تشير غيث إلى أن هناك شكاوى مباشرة قُدِّمَت إلى النيابة العامة العسكرية ضد بعض العسكريين الذين وُثِّقَت اعتداءاتهم على المتظاهرين، «إلا أن مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر، لم يدّع حتى اللحظة عليهم، علماً بأن هناك صوراً تعرف هوياتهم».

حق التظاهر

«ما بدنا نتساهل بالجريمة!» هذا ما نقله أحد المحامين عن أحد قضاة التحقيق، مشيراً إلى «النية في الحسم في هذا المجال»، فهل يعد التظاهر والاشتباك مع عناصر القوى الأمنية جرماً وفق القانون؟
يقول فياض إن حق التظاهر هو من الحقوق الأساسية التي تندرج ضمن إطار حقوق الإنسان، وهو ينبثق من الحق في الاعتقاد وإبداء الرأي ويلتصق بحقوق ثلاثة: الحق في حرية التعبير، الحق في الاجتماع، والحق في التنقل.

لم يدّع القاضي صقر على العسكريين المعتدين بالرغم من تقديم شكاوى مباشرة بحقهم

وهو حق مقيد في القوانين، «ولا يمكن أن يتحول من مظهره كحرية إبداء الرأي والتعبير إلى رأي آخر يتمثّل بإخلال الطمأنينة العامة والنظام العام أو يصبح إتلافاً للأملاك العامة والخاصة». ويضيف فياض: «وما بين هذين الحدين تقف تصرفات المتظاهرين، وتحاسب هذه التصرفات على أساس وقوعها بينهما أو تجاوزها أيّاً منهما»، وإذا انجرف المتظاهرون خارج الحدين، وجبت معاقبتهم، وفق فياض، ولكن «ليس بالرصاص الحي ولا بالضرب أو ظروف المعاملة القاسية أو المهينة أو اللاإنسانية». يلفت فياض إلى أن قانون العقوبات اللبناني يلحظ مجموعة من المواد تتعلق بأمن الدولة الداخلي، كذلك يتعلق بعض هذه المواد بحالات الشغب والتجمعات والتظاهرات التي تؤدي إلى الإخلال بالنظام العام وإلى الشغب، وتندرج في إطار المواد 345 إلى 348 من قانون العقوبات. اللافت هو ما يشير إليه فياض، وهو أن بعضاً ممن تتضمنه هذه المواد (المتعلقة بحالات الشغب والتظاهرات) أصبح في حالة من التناقض مع ما استقرت عليه مفاهيم حقوق الإنسان والحريات العامة الإساسية، لأن قانون العقوبات هو قانون صادر في عام 1943 مع ما لحقه من تعديلات، في حين أن مفاهيم حقوق الإنسان والحريات العامة الأساسية قد تطورت تطوراً هائلاً أبعد بكثير ممّا كانت تسمح به القوانين في منتصف القرن الماضي. وبالتالي «من هنا فإن لبنان مدعو وملزم في تعامله مع مسألة حق التظاهر ومع المتظاهرين أن يراعي ويلتزم ما أقره دستوره في عام 1990 من التزام مواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسائر المواثيق ووجود تجسيد الدولة لهذه المفاهيم في سلوكها وممارساتها.

تجاوز المهل واحتجاز القاصرين

القانون إذا ينص على أحكام متعارضة مع حقوق الإنسان، ولكنه في حالات كثيرة يراعي هذه الحقوق وينظّمها، إلا أن القضاء وأجهزة الأمن لا يلتزمانها.
تشير الباحثة في القانون سارة الونسا، إلى أن عمليات التوثيق التي تقوم بها لجنة الدفاع عن المتظاهرين تثبت أن هناك «نوعاً من الاستنسابية في وجود مندوبين عن الأحداث أثناء التحقيقات»، ويقول فياض في هذا الصدد إن «كل تحقيق يجري مع القاصرين من دون وجود مندوب الأحداث هو غير قانوني، ويجب محاسبة الضابطة العدلية التي تولت التحقيق».
ماذا عن مدة التوقيف؟ يقول فياض إنه يجب التفريق بين الموقوف والمحتجز، فالاحتجاز الذي يطلق عليه مصطلح التوقيف هو «الفترة التي تستبقي فيها النيابة العامة شخصاً حامت حوله شبهات وتبقيه محتجزاً على ذمة التحقيق مدة لا تزيد على 48 ساعة ما لم تر النيابة العامة أن هناك حاجة لمزيد من استجوابه، فيقرر تمديد الاحتجاز مدة مماثلة سنداً للمادة 32 من قانون أصول المحاكمات الجزائية». أما التوقيف بمعناه القانوني الدقيق فهو «الذي يقوم به قاضي التحقيق بموجب مذكرة توقيف وجاهية أو غيابية ويفترض في حالة الجنحة أن لا تزيد على شهرين، ويمكن تمديدها مدة مماثلة كحد أقصى في حالة الضرورة القصوى، أما في الجناية فلا يجوز أن تتجاوز مدة التوقيف ستة أشهر يمكن تجديدها لمرة واحدة بالمدة نفسها بقرار معلل، ما عدا جنايات محددة هي جنايات القتل والمخدرات والاعتداء على أمن الدولة وجرائم الإرهاب والجنايات ذات الخطر الشامل وحالة الموقوف عليه سابقاً بعقوبة مدتها سنة على الأقل بحسب المادة 108 من أصول المحاكمات الجزائية».
التوقيف إذاً يجب أن لا يتعدى أربعة أيام، إن كانت هناك إشارة من النيابة العامة. علماً بأن هناك بعض المحامين كانوا قد أثاروا أن هناك عمليات احتجاز حصلت من دون إشارة من النيابة العامة، إلا أنه سواء أكانت هناك إشارة أم لم تكن، إن تجاوز مهل التوقيف يمثّل خرقاً فاضحاً للقانون.
يقول فياض إنه إذا ما تبين أن هناك احتجازاً طال أكثر من فترة 96 ساعة ودون إشارة واستئذان من النيابة العامة وإشرافها المباشر على التحقيق والاحتجاز، فإن ذلك «يعد عملاً تعسفياً ويلاحق الموظف المسؤول عنه بجريمة حرمان الحرية الشخصية سنداً للمادة 107 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي جاءت صريحة وواضحة في هذا الشأن، علماً بأن هذه المادة تستعيد مضمون مادة مماثلة في قانون أصول المحاكمات القديم، فإذا ما طبقت بعد إثبات مضمونها تؤدي إلى عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة بحق الموظف الذي حبس شخصاً انتهاكاً للقانون في غير الحالات التي ينص عليها القانون سنداً للمادة 367 من قانون العقوبات اللبناني.

التكتم عن أمر التوقيف

بقي عدد من الموقوفين لفترة تتجاوز 24 ساعة في عداد «المفقودين» بالنسبة إلى أهاليهم الذين لم يُبلّغوا بأمر توقيف أبنائهم. يقول فياض إن كتمان أمر التوقيف عن ذوي الموقوف أو المحتجز يخالف قانون أصول المحاكمات الجزائية «الذي وضع كي يمنع الاعتداء على الحريات ويمنع أي تعسف أو تصرف اعتباطي»، مشيراً إلى أن «واجب الضابطة العدلية السماح للمشتبه فيه أو المشكو منه (المحتجز) فور احتجازه ودون أي تأخير بالاتصال بأحد أفراد عائلته أو أحد معارفه أو محام (..) كما يجب أن يُعرض على طبيب»، لافتاً إلى أن عدم التقيد بهذه الخطوات من قبل الضابطة العدلية بهذه الأمور «يعد انتهاكاً صريحاً لمادة 47 من قانون الأصول المحاكمات الجزائية».
تقول الونسا إن لجنة التوثيق تجد صعوبة في التواصل مع الموقوفين الذين أُخلي سبيلهم، «ثمة تخوف كبير من قبل الأهالي الذين منعوا أولادهم من التواصل معنا أو مع الإعلام للحديث عما جرى خلال التحقيقات»، وهو أمر قد يُسهم في عرقلة محاسبة القوى الأمنية وتحقيق هدفها من التعسف، وهو أن «تربي أهل المتظاهرين بولادن»، على حد تعبير أحد أهالي المحتجزين القاصرين.