بسام القنطار ليلة ١٣ آب ٢٠٠٦، كان عساف أبو رحال يجول في قريته الكفير باحثاً عن آلة فاكس يرسل منها تقريره الإخباري. مراسل مرجعيون ـــــ حاصبيا الذي كان يتشوّق لانطلاقة «الأخبار» لم يكن يتوقع، كغالبية زملائه، أنّ صدور العدد ١ سيكون صبيحة توقّف الاعمال العدوانية الاسرائيلية التي استمرت ٣٣ يوماً. كانت شبكة الانترنت في الجنوب مقطّعة كأوصاله، وكذلك غالبية خطوط شبكة الهاتف الثابت. لكنّ هاتف «الأخبار» في بيروت لم يتوقف عن الرنين، وعساف على الخط يريد التأكّد من وصول خبره كاملاً.
من العديسة، المكان الذي استشهد فيه، الى آخر تخوم مزارع شبعا، لم يتوقف عساف أبو رحال عن التجوال على الحدود اللبنانية، باحثاً عن خبر، عن أيّ تحرّك معادٍ، عن دورية غير اعتياديّة لليونيفيل، عن استنفار هنا وخرق للخط الأزرق هناك. كل الزملاء في «الأخبار» يعرفون مسبقاً جواب عساف عن سؤالنا اليومي عن المواضيع المتوقعة: «لا جديد حتى الساعة، لكنّي متّجه جنوباً الى الحدود، وسوف أبلغ بأي خبر جديد فور حدوثه».
لم يبلغ عساف أمس عن الخبر، كان هو الخبر، سقط شهيداً مضرّجاً بدمائه، وإلى جانبه سقطت كاميرته الصغيرة التي لطالما طالب باستبدالها. عساف أبو رحّال شهيد لبنان، وشهيد الجنوب، وشهيد الصحافة والكلمة الحرة، لكنّه قبل ذلك كله شهيد لقمة العيش المغمّسة بالتعب، شهيد صحافة المناطق المفتقرة، كما المناطق نفسها، الى التجهيزات والبنية التحتية، التي لا يُسأل غالباً عن حالها إلا في الحروب والازمات.
عساف أبو رحال نموذج للصحافي ـــــ المزارع الوفيّ دائماً لمواسم الضيعة. حين يقطف الصنوبر يكتب تقريراً عن كساد الموسم وعن دود الصندل الذي يفتك بالأشجار، وحين «يمرشخ» الزيتون يكتب عن الزيت المكدّس بالخوابي وعن «الزيبار» الذي يلوّث الأنهار والسواقي وتتبخّر ملايين «وكالات التنمية» قبل أن تستطيع تشغيل محطات تكريره.
تعرف اليونيفيل عساف جيداً، وهو الذي لم يُشغل عن تغطية أنشطتها، المملة في معظم الأحيان. لكنه كان يعرف كيف يصنع من الخبر المحلّي حدثاً. هكذا نجح في تحويل قصة بركة النقار ودخول المواشي إليها، حكاية يومية للخط الأزرق الذي يضيق ويتّسع طبقاً للمزاج الاسرائيلي وللابتكار الأممي الذي لم يجد حلاً لتلك البركة سوى تسييجها من الجهتين.
كان عساف يسهر حتى وقت متأخر من المساء متابعاً قصة راعٍ اختطف في الصباح ليطلق سراحه في المساء أو في اليوم التالي، وقرينة عساف على أن الراعي اختطف واقعة «عودة بغله المتمرّس بالمهمات الجبلية وحيداً».
في منطقة يكون فيها التحدث عبر شبكة الهاتف الخلوي بدون عوائق من عجائب الدنيا السبع، وجد عساف حلاً مبتكراً. ألغى هاتفه النقال، واقتنى هاتفاً لاسلكياً موصولاً على هاتفه الثابت في المنزل. وهكذا كان تارة يجيب هو، وتارة تجيب زوجته التي حوّلت منزلها الى غرفة عمليات صغيرة كرمى لعيون عساف. لتلك الزوجة ولعائلة عساف مساحة من الحزن لا تتسع لها حدود الدنيا.
عساف أبو رحال حارس ذاكرة جنوبه المشبعة بالدم ورائحة الموت، حارس بوّابة فاطمة وكفركلا ومرجعيون وإبل السقي وراشيا الفخار وشبعا... عساف حارس الحدود التي اختطفته منّا باكراً.