للمرة الأولى منذ عدوان تموز 2006، يقع اشتباك عنيف بين الجيش اللبناني وقوات الاحتلال الإسرائيلي. الطرف اللبناني كان حازماً أمس، وقرر التصدي للخروق الاسرائيلية، ولم يوقف إطلاق النار إلا بعدما فعلت قوات الاحتلال ذلك
كامل جابر
في أول احتكاك جدّي منذ 2006، استطلعت قوات الاحتلال الإسرائيلي، بالنار، قرار الجيش اللبناني بالتعامل مع الخروق البرية المتعمّدة للخط الفاصل بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة. أما النتيجة، فكانت فتح النار من الطرف اللبناني على القوات الإسرائيلية، وحصول اشتباك أدى إلى استشهاد اثنين من أفراد الجيش اللبناني، هما الرقيبان عبد الله طفيلي وروبير العشي، والزميل عساف أبو رحال، وجرح عدد من العسكريين والمدنيين. ومن الجانب الإسرائيلي، قتل ضابط برتبة مقدم، يشغل منصب قائد كتيبة في المنطقة الشمالية، إضافة إلى جرح ضابط برتبة نقيب وعدد من العسكريين الإسرائيليين، أحدهم جراحه خطرة. وبعد هجوم إسرائيلي عنيف بقذائف الدبابات على مراكز الجيش وعدد من منازل المدنيين في المنطقة، نشطت الاتصالات التي بدا معظم من شارك فيها حريصاً على عدم تدهور الأمور والوصول إلى اشتعال النيران على طول الجبهة. وأكدت مصادر في الجيش أن أي محاولة إسرائيلية لخرق السيادة اللبنانية ستواجَه برد من قطعات الجيش المنتشرة على الحدود، مباشر وفعّال، مهما بلغت التضحيات.
ما فعله الإسرائيليون أمس في العديسة يظهر أن القضية لم تكن «رمانة، بل هي قلوب مليانة». فقبل ظهر أمس، حاولوا تجاوز خط الحدود اللبنانية ــــ الفلسطينية، لاقتلاع شجرة سرو في منطقة يتحفّظ عليها الجانب اللبناني، وتتبع للنطاق العقاري للعديسة. أرادوا اقتلاع الشجرة لأنها تمثّل حاجزاً طبيعياً للرؤية من أحد مواقعهم، ولتركيب كاميرا للمراقبة. اعترض الجيش اللبناني على الخطوة الإسرائيلية، من خلال قوات الأمم المتحدة، إلا أن إسرائيل باغتت الجيش وقطعت الشجرة، فما كان من الطرف اللبناني إلا الرد بالنار. التصعيد الإسرائيلي كان كبيراً، واستهدف مواقع الجيش في المنطقة بقذائف الدبابات، وأصاب منازل مدنيين لبنانيين، وسجل وقوع جريح هو المواطن إبراهيم خليل عبود (20 عاماً).
الجيش اللبناني ردّ على القصف بإطلاق قذائف «آر. بي. جي» والأسلحة الرشاشة الفردية. وتعرّضت بعدها تلال العديسة لسقوط عدد من القذائف الإسرائيلية. وبسبب التراشق بالأسلحة الرشاشة، قطع الجيش اللبناني الطريق بين العديسة وكفركلا، وخصوصاً أن رمايات جنود العدو صارت تستهدف قنصاً السيارات المتنقلة على الطريق المكشوفة لمواقعها في أسفل مستعمرة مسكاف عام.
وقبيل الواحدة والنصف من بعد الظهر، حلقت مروحية إسرائيلية من نوع «آباتشي» في سماء العديسة، وأطلقت ثلاثة صواريخ على موقع الجيش اللبناني قرب مشروع الطيبة، على التلة المعروفة بـ«تلة المشروع»، ما أدى إلى حرائق في الموقع، من دون أن يبلغ عن وقوع إصابات في صفوف جنود الموقع.
بعدها توقف القصف مدة نصف ساعة، استقدم خلالها جنود العدو تعزيزات، راح يراقبها جنود الجيش اللبناني من موقعهم ودشمهم وغرفهم في موقع العديسة. وعند الثانية والدقيقة السابعة، أطلقت دبابة ميركافا قذيفة مباشرة أصابت إحدى الدشم، وكان أمامها جنديان من الجيش اللبناني والزميل أبو رحال الذي كان قد وصل للتوّ، ما أدى إلى استشهادهم على الفور، وتحوّل بعضهم إلى أشلاء. وأصيب العديد من أفراد الموقع، فعمل رفاقهم وعناصر من الدفاع المدني على سحبهم ونقلهم إلى مستشفيات المنطقة. ورد موقع الجيش اللبناني بالقذائف الصاروخية على مصادر النيران، ما أوقع خسائر بشرية في صفوف جنود العدو الذين أطلقوا العديد من قذائف الميركافا على موقع الجيش وعلى بلدة العديسة. وبدا واضحاً من حجم التصعيد الإسرائيلي أن ثمة خسائر بشرية جدية في صفوف القوة الإسرائيلية، وهو ما فرضت الرقابة العسكرية تعتيماً عليه حتى ساعات المساء.
وأصيب في القصف على العديسة مراسل تلفزيون المنار الزميل علي شعيب بجروح في قدمه، ونقل الى مستشفى ميس الجبل حيث أجريت له عملية جراحية.
وخلال القصف أخلت قوات اليونيفيل مواقعها وحواجزها القريبة من بلدة العديسة، ما أثار قلق المواطنين واستغرابهم، متسائلين عن الدور الحقيقي لهذه القوات خلال العدوان، ولماذا تركت الساحة لعبثية جنود العدو. ومباشرة عادت إلى الأذهان محاولة قوات اليونيفيل قبل أسابيع إجراء مناورة تدريبية على كيفية مواجهة إطلاق صواريخ من جنوب لبنان باتجاه فلسطين المحتلة، وهي المناورة التي احتجّ المواطنون على إقامتها، مطالبين بأن تتدرب اليونيفيل على كيفية مواجهة عدوان إسرائيلي.
وبعد ظهر أمس، تجمهر عدد من المواطنين أمام إحدى دوريات اليونيفيل في بلدة كفركلا، احتجاجاً على أداء هذه القوات التي كانت قد اكتفت بدعوة «الطرفين إلى ضبط النفس». قائد القوات الدولية، ألبرتو أسارتا، كان في الخارج. أما نائبه، سانتي بونفانتي، فقد توجه «شخصياً»، بحسب بيان لليونيفيل، «على متن مروحية الى مكان الحادث» بعيد الساعة الخامسة من بعد الظهر. ولم تتدخل اليونيفيل أمس إلا لنقل مطلب الجيش الإسرائيلي بوقف إطلاق النار للتمكن من سحب الجرحى من مكان الاشتباك. وبعد سلسلة اتصالات أجريت على المستويين العسكري والسياسي، أوقف إطلاق النار الذي صمد حتى مساء أمس.
وقد شهدت بلدة العديسة والعديد من قرى الجوار حركة نزوح خفيفة باتجاه منطقة النبطية، وخصوصاً بعدما تصاعدت عملية القصف الإسرائيلي لعدد من تلال العديسة وتحليق المروحيات الإسرائيلية في أجواء المنطقة، إلا أن الأمور عادت إلى طبيعتها بعد العصر، إذ لم يمض وقت طويل على انتهاء الاشتباكات، حتى عادت الحياة الى طبيعتها في البلدة والبلدات المجاورة، وتحولت منطقة الاشتباك إلى محجة للمواطنين الذين حضر المئات منهم رافعين الأعلام اللبنانية ورايات حزب الله، معبّرين عن دعمهم للجيش والمقاومة. وفي مكان الاشتباك، علّق الأهالي، بدعم من المجلس البلدي، شاشة كبيرة لبث خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، كذلك أعيد فتح المحال التجارية وكأن المعركة لم تقع.
اتصالات التهدئة بدأت فور وقوع الاشتباك، وخاصة بعدما وصلت إلى من يعنيهم الأمر رسائل تكشف أن المقاومة أعلنت استنفاراً واسعاً في صفوف قواتها في الجنوب، تحسباً لأي تطوّر. وقد شملت الاتصالات اللبنانية، وخاصة تلك التي أجراها رئيسا الجمهورية والحكومة، معظم العواصم العربية والغربية الفاعلة. رئيس الحكومة الذي قطع إجازته، جزئياً، لإجراء هذه الاتصالات، لم يعد إلى بيروت للمشاركة في اجتماع المجلس الأعلى للدفاع الذي عقد بعد الظهر في القصر الجمهوري، بغياب وزير الدفاع الياس المر الموجود في الخارج أيضاً. ولم يطل الاجتماع أكثر من نصف ساعة، و«أبقيت مقرراته سرية وفقاً للقانون»، بحسب البيان الذي صدر عنه. وبعد الاجتماع الذي قرر التصدي لأي اعتداء اسرائيلي، استدعى وزير الخارجية علي الشامي سفراء الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، لإبلاغهم مضمون الشكوى التي قرر لبنان تقديمها إلى مجلس الأمن الدولي ضد إسرائيل.
(شارك في هذا التقرير: داني الأمين)


البيت الأبيض يؤكّد أولويّة حماية إسرائيل


لم تكن معركة العديسة، أمس، شرارة إشعال الحرب التي يبشّرنا بها العرّافون منذ مدة. كادت أن تقع، لولا أن القرار المحلي والإقليمي والدولي يصبّ في خانة التهدئة، حالياً. ومن هذا المنطلق، كانت ردود الفعل على ما جرى. القوى الغربية، وكعادتها، رفضت الإشارة إلى التجاوزات الإسرائيلية. وأقصى ما صدر عنها هو عدم تحميل أحد المسؤولية، والدعوة إلى ضبط النفس. أما البيت الأبيض فرفض الناطق باسمه، روبرت غيبس، تناول الاشتباكات مكتفياً بالتذكير، أنه منذ اللحظة الأولى لتولي الرئيس باراك أوباما السلطة أكدت الولايات المتحدة مراراً موقفها «في حماية أمن إسرائيل وشعبها، وسيواصل البيت الأبيض القيام بذلك»!
أما الناطق باسم الخارجية الأميركية، فيليب كراولي، فقال إن «بعثة اليونيفيل تعمل على معرفة الحقائق المتعلقة بهذا الحادث بأسرع وقت ممكن»، معرباً عن «الأسف الشديد للخسائر في الأرواح». أضاف إنه مهما كان السبب وراء الاشتباكات فإن «أكبر همّنا هو ألا يتكرر ما حدث، فالمنطقة فيها ما يكفيها من التوتر. آخر ما نودّ أن نراه هو أن يتسع هذا الحادث الى شيء أكبر».
بدورها، أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بياناً باسم وزير الخارجية الفرنسي قال فيه إن باريس باريس تنتظر «كشف ملابسات هذا الحادث من قبل اليونيفيل لتحديد المسؤولية واتخاذ الإجراءات المناسبة»، داعياً إلى ضبط النفس. وبدت كل البيانات الغربية منسوخة عن الموقفين الأميركي والفرنسي، إذ صدرت مواقف مشابهة من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي.
ومن هذا المنطلق، أتت دعوة مجلس الأمن الدولي «الطرفين إلى ضبط النفس»، فيما تطلع أعضاؤه «إلى استكمال تحقيقات اليونيفيل بهدف الحؤول دون وقوع مثل هذه الحوادث في المستقبل».
أما عربياً، فقد اتصل الرئيس السوري بشار الأسد برئيس الجمهورية ميشال سليمان، معرباً عن «وقوف سوريا الى جانب لبنان ودعمها له ضد الاعتداء الذي شنته إسرائيل على الأراضي اللبنانية». بدوره، أكد وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، في اتصال مع رئيس الحكومة سعد الحريري، «تضامن مصر الكامل مع الحكومة اللبنانية في مواجهة الخروق الإسرائيلية للسيادة اللبنانية»، معلناً أن مصر «ترقض رفضاً قاطعاً أي انتهاك للسيادة اللبنانية، وتدين الخروق الإسرائيلية للقرار 1701». وأعرب أبو الغيط عن ثقته «بقدرة قوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان على القيام بدورها في تهدئة الموقف في الجنوب واحتواء الاشتباكات ومنع تكرار الخروق الإسرائيلية في المستقبل».
موقف الأردن كان أوضح من الموقف المصري في وصف ما جرى. ففيما اكتفت القاهرة بالحديث عن الخروق الإسرائيلية، وصف مجلس الوزراء الأردني ما جرى بـ«العدوان الإسرائيلي»، معلناً وقوف «الأردن إلى جانب الأشقاء في لبنان وتصدي الدولة اللبنانية للدفاع عن سيادة الأرض اللبنانية». أما دول مجلس التعاون الخليجي، فأدانت «العدوان الإسرائيلي الغاشم» على الجيش اللبناني. ودعت دول مجلس التعاون «المجتمع الدولي ومجلس الأمن على وجه الخصوص إلى التدخل الفوري لاتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بوقف هذه الاعتداءات وإلزام إسرائيل بالكف عن تماديها في خرق القرارات الدولية ذات الصلة واعتدائها على القانون الدولي».
بدورها، أدانت الخارجية الإيرانية «بشدة توغل النظام الصهيوني في مناطق في جنوب لبنان، ما أدى إلى استشهاد عدد من أبناء الجيش اللبناني».
داخلياً، وبعد فترة من التوتر والانقسام حول عدد من المواضيع الخلافية، شهد يوم أمس توحّداً في المواقف الداعمة للجيش اللبناني، والمدينة للاعتداء الإسرائيلي.
وأعرب رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون عن استغرابه لمنح إسرائيل «نيات سلمية»، إذ «لا يزال بعض الناس يراهنون على المؤسسات الدولية والدبلوماسية لتحرير أرضهم وتثبيت وجودهم وكيانهم وكرامتهم. الكيان والكرامة والاستقلال والسيادة لا يمكن تثبيتها إلا من خلال التضحيات في ظل وجود إسرائيل على حدودنا».
ودعا الرئيس السابق أمين الجميل إلى «عقد مجلس وزاري مصغر في القصر الجمهوري لتتبع الأمور، وحشد كل القوى الوطنية لمواجهة هذه الاعتداءات».
وقد أجرى رئيس مجلس النواب نبيه بري سلسلة اتصالات واجتماعات عقب اشتباكات الجنوب، فاستقبل السفيرة الأميركية في بيروت ميشيل سيسون والممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة مايكل وليامز، الذي قال إن «الحادث، لسوء الحظ، يأتي بعد زيارة مهمة جداً للعاهل السعودي الملك عبد الله والرئيس السوري بشار الأسد وكذلك زيارة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وهذه الزيارات تمثّل مساهمة كبيرة في تحقيق الاستقرار والهدوء في لبنان».