صباح أمس، توقّف قلب المرجع الديني السيّد محمد حسين فضل الله، بعد معاناة مع المرض. وبالرغم من إذاعة أخبار تدهور صحّته في الأيام الماضية، إلاّ أن معظم محبّيه وجمهوره بدوا غير مصدّقين، بل كأنّهم لا يريدون لعلاقتهم اليوميّة به أن تتوقّف وتنتهي. وهم الذين كانوا يذهبون إليه ليهمسوا بأسرارهم أو ليطلبوا ما آمن به هو من أن المؤسسات تبعده عن منطق المنّة والعطيّة. أمس، غاب من تربّى عليه معظم قادة التيّار السياسي والديني «الشيعي»، وارتبط لفترة طويلة بحزب الله، مرشداً روحياً. وبالرغم من ذلك، وجد فيه كثيرون من مذاهب فكريّة ودينيّة أخرى عقلاً متنوّراً، محاورته ممكنة وضرورة، ومؤمناً بلا تعصّب، ومختلفاً مع دعوة إلى التفاعل والحوار. غاب المرجع الجريء حتى الإزعاج، الذي استطاع جعل التحرّك مع العصر، ومحاورة العلم والإفادة منه، أمراً لا يمكن تجاوزه في إنتاج الفكر الديني ولا في الإيمان ومعرفته.
محمد محسن
الشوارع لا تنطق، لكنّ ملامحها تخبر عنها. هدوؤها لا يشبه لحظات الهدوء الأخرى. هو سكون الموت. الرجل الذي عرفته مساعداً لفقرائها، واحتضنها في أيامها العصيبة، رحل. الصراع مع البكاء كان مستحيلاً. لابتسامة السيد محمد حسين فضل الله، في صوره التي نشرت بعد نعيه، وقع مبكٍ على محبّيه، ربما كان أصعب من وقع خبر وفاته. اللحظة قاسية على كل من عرف السيّد. أيُعقَل أن يرحل في هذا الوقت الحسّاس؟ لقد استعجل الرحيل. سرقه المرض خلسة. أمس، كان الألم غزيراً، والوجوه لم تحتج إلى ضوءٍ يفضح وجعها. في مسجد الإمامين الحسنين بحارة حريك، لا مساحة لشيء غير الحزن، حيث تُلي بيان نعي العلامة السيد محمد حسين فضل الله، بعدما توفي عند التاسعة والنصف صباحاً. ينتحب الحاضرون في قاعة الزهراء. كأنهم يرفضون سماع الخبر. لم يعهدوا على هذا المنبر خطيباً غير السيّد، فكيف به يتحول منبراً ينعاه؟ عند الحادية عشرة والنصف ظهراً أعلن رسمياً وفاة المرجع الديني البارز. حضر مراسلو وسائل الإعلام وفعاليات سياسية ودينية واجتماعية. وانسجاماً مع تقاليد المرجعيّة الشيعية، بألّا ينعى المرجع إلا عالم دين مجتهد، تلا وكيل فضل الله الشرعي في البحرين، وكبير الموظفين في مكتب مرجعيته السيد عبد الله الغريفي بيان النعي. إلى جانبيه، جلس النجل الأكبر لفضل الله، السيّد علي، ومدير مكتبه الإعلامي هاني عبد الله. وعرض البيان مراحل حياة فضل الله من دعمه لحركات المقاومة، مروراً بفكره الوحدوي الإسلامي وإيمانه بالحوار مع الآخر، وصولاً إلى مساعدته الفقراء والمستضعفين.
لولا غياب السيد حسن نصر الله، لكان حضور قيادات حزب الله كاملاً
استقبلت عائلة السيّد المعزّين في الباحة الخارجيّة للمسجد. اصطفّ أخوه وأبناؤه لتلقي العزاء. يتمنّى المنشد الديني محمد رمال على المعزين الاقتصار على التسليم باليد فسحاً للمجال أمام الحشود. بدأ توافد الشخصيات الرسمية منذ اللحظات الأولى للعزاء. لحزب الله الحصة الأكبر من المعزّين. فلولا غياب السيد حسن نصر الله، لكان حضور قيادات الحزب كاملاً. كيف لا وكثيرون منهم من تلامذته الأوائل، ينتمون إلى الرعيل الأول المؤسس للحزب، الذي ربطته علاقات حميمة وعمل جهادي مشترك مع فضل الله. بدا التأثر واضحاً على وجهي الشيخ نعيم قاسم والنائب حسن فضل الله. فالأول كان من تلامذة السيد لفترة، يوم كان أستاذاً للكيمياء. أما الثاني فهو ابن قريته عيناثا وقريبه. أمّا النواب نواف الموسوي وعلي فياض ومحمد فنيش فكانوا من مقربيه وتلامذته. أجهش النائب محمد رعد بالبكاء أكثر من مرّة. وقف والد الشهيد عماد مغنية يتلقّى العزاء ويمسح دموعه. فابنه جهاد كان من بين شهداء متفجرة بئر العبد التي استهدفت فضل الله في عام 1985. أمّا عماد، فكان قائد فرقة الحماية الشخصية الأولى لفضل الله. كان التأثر واضحاً على نجل فضل الله الأكبر علي. أمّا نجله جعفر، فقد تولّى التواصل مع الصحافيين. وفي حديث مع «الأخبار» نقل السيد جعفر أن «آخر كلمة للسيّد قبل وفاته كانت: لن أرتاح قبل زوال إسرائيل». وفيما سرت شائعات عن إجراءات لدفن السيّد في مدينة النجف بالعراق، أكد بيان لمكتبه أن السيّد سيدفن غداً في صحن مسجد الإمامين الحسنين.
وكان الرؤساء الثلاثة قد نعوا الراحل الكبير، فرأى الرئيس ميشال سليمان أن غياب السيد فضل الله «خسارة وطنية لشخصية تميزت بالعقل المتنور والمنفتح». أمّا الرئيس نبيه بري، فقد رأى أن الأمتين العربية والإسلامية تفتقدان «داعية من طلائع الدعاة إلى الوحدة الإسلامية، وصوتاً مدوياً من أجل نصرة قضايا الحق والعدالة ومقاومة الظلم والعدوان». من جانبه، رأى الرئيس سعد الحريري أن لبنان «يخسر مرجعية وطنية وروحية كبرى، أسهمت إسهاماً فعالاً في ترسيخ قيم الحق والعدل لمقاومة الظلم». كذلك نعاه السيّد حسن نصر الله، قائلاً: «فقدنا أباً رحيماً ومرشداً حكيماً وكهفاً حصيناً وسنداً قوياً في كل المراحل». ونعاه حزب الله وحركة أمل، والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي جاء في بيانه: «برحيله تفتقد الأمة الإسلامية رمزاً من الرموز العاملين على التقريب بين المذاهب». أمّا مفتي الجمهورية، الشيخ محمد رشيد قباني، فرأى أن لبنان والعالمين العربي والإسلامي فقدوا بوفاته «علماً وعالماً كبيراً من فقهاء المسلمين، له مكانته ودوره في خدمة الإسلام». وأبرق النائب البطريركي للروم الملكيين الكاثوليك المتروبوليت يوحنا حداد معزياً.
كذلك نعاه نائب الرئيس العراقي المنتهية ولايته عادل عبد المهدي. إلى ذلك، نعى فضل الله كل من الرؤساء سليم الحص، نجيب ميقاتي، حسين الحسيني، وكامل الأسعد. ومن بين من نعاه أيضاً: الوزير غازي العريضي، والنواب: عمّار حوري، ياسين جابر، علي عسيران، محمد قباني، أسعد حردان، وليد سكرية، والوزير السابق فوزي صلوخ، والنائب السابق فيصل الداود. كذلك نعى فضل الله كل من الشيخ عفيف النابلسي، الشيخ نعيم حسن، الشيخ نصر الدين الغريب، الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية اللبنانية، جبهة العمل الإسلامي، الحزب العربي الديموقراطي، حزب رزكاري، الأمين العام للجماعة الإسلامية، تجمع العلماء المسلمين في لبنان.


74 عاماً من العطاء والمقاومة

ولد السيد محمد حسين فضل الله في النجف الأشرف في العراق، في تشرين الثاني عام 1935. بدأ دراسته للعلوم الدينية في سنّ التاسعة، وكان من الطلاب البارزين، ما جعله يحوز ثقة المرجع الخوئي، فكانت وكالته المطلقة له في الأمور التي تناط بالمجتهد العالم. عاد إلى لبنان عام 1966، وأسّس حوزة «المعهد الشرعي الإسلامي» في منطقة النبعة، مكوّناً بذلك نقطة البداية لكثير من طلاب العلوم الدينية. مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية انتقل إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، وكان موقفه واضحاً بشأن دعم المقاومة المسلّحة ضد الاحتلال الإسرائيلي. تعرّض لمحاولات اغتيال عدّة، أبرزها كانت عام 1985 عندما استهدفته سيارة ملغومة في بئر العبد.
حركته الشاملة جعلت قطاعات واسعة من الشباب تطالبه بالإفتاء، إلّا أنه لم يوافق إلّا بعد رحيل الصف الأول من مراجع التقليد الشيعي في العالم. وقد أثارت أفكاره واجتهاداته الفقهية جدلاً واسعاً في الساحة الإسلامية، وخصوصاً أنّ السيّد امتلك الجرأة العلمية على طرح نظريّاته الفقهية عندما يتوصل إلى قناعة ثابتة بها.
آمن بالعمل المؤسساتي، فأسّس جمعية المبرّات الخيريّة التي احتضنت الأيتام في مناطق متعدّدة من لبنان، كما دعم رعاية الأيتام في الأسر. اهتمّ بذوي الاحتياجات الخاصّة من خلال «معهد الهادي للإعاقة السمعيّة والبصرية»، وأنشأ مستشفى بهمن في حارة حريك، ودعم إنشاء العديد من المؤسسات الاجتماعية والتربوية في دول الاغتراب.
كاتب غزير الإنتاج، له أكثر من 40 كتاباً عن الإسلام والفقه والسياسة والمرأة، إضافةً إلى الشعر.