ريتا فرج«القرآن لا يفهمه إلا الحركيّون الذين عاشوا معنى الحركيّة في الإسلام»، بعبارة مقتضبة، اختصر العلّامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله، عقوداً من مأزق المواءمة بين الدين والعلم، بين فقه الواقع والنص المقدس.
السيد الوافد من سلالة أهل البيت، والذي شغله منذ أن تعمّم بردائه الديني استنطاق القرآن بمنهجية حركية لا تقل أهميتها عن تأويلات العقلانيين غير المعمّمين، من محمد أركون إلى نصر حامد أبو زيد وغيرهما الكثير. وليس أدلّ على مركزية الاجتهاد عنده، ما تركه من إرث علمي يحاكي شؤون جماعته سواء من انتسب منهم عبر التشيّع الى مجال الإمام علي، أو أولئك الذين وجدوا فيه داعية للحوار.
حركية النص عند فضل الله أتاحت له الانقلاب على التفسيرات التقليدية، التي يتمسك قارئو المقدس بذهنية حرفية، وهو المنتسب إلى مدرسة الاجتهاد بنكهة التشيّع الحركي لا المذهبي، فطرح فتاوى بدت للبعض جريئة لجهة خروجها من عقل علّامة سلك تدرّج المعمّمين من النجف الأشرف، الى آخر أطروحة تقدم بها والموسومة تحت عنوان «الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل»، قال فيها: «ليس هناك سبيل لفصل فهم القرآن عن حركة الإنسان، والمجتهد أو المفسر يخضع للمؤثرات التي تحيط به»، فالنص عنده ثابت، أما الظاهر فمتغير.
حاور فضل الله العالم بعين عقله، والأحياء وحدهم الذين يقرأون إشكاليات المتحول بمناهج الاستنباط والاستقراء والتأويل، فقدم نتاجاً فقهياً اتخذ منحىً تراكمياً، أي أنه قرأ الواقع بتغيره، بقدر تأكده من أهمية الشعار القائل إن «الدين ثابت، لكن المعرفة الدينية متغيرة».
السيّد الذي انتصر للمرأة، دعا إلى فتح الحوار بين الشيعة والمذاهب الأخرى
في كتاب فقه الشريعة المكوَّن من ثلاثة أجزاء، جمع السيد فضل الله فتاواه، وله العديد من المؤلفات التي تراوح بين الكتب الفقهية والإسلامية، ومن بينها: مع الحكمة في خط الإسلام، قضايا إسلامية معاصرة، تحديات الإسلام بين الحداثة والمعاصرة، الإسلام وقدرته على التنافس الحضاري، الإسلام ومنطق القوة، تأملات إسلامية حول المرأة. ولعل ما اجتهد به في ما يتعلق بحقوق المرأة في الإسلام، كان الأشد شهرة بعدما أفتى بجواز أحقيّة المؤمنات بالدفاع عن أنفسهن قائلاً: «في استطاعة المرأة أن تردّ عنف الرجل الجسدي الذي يستهدفها بعنف مضاد من باب الدفاع عن النفس... المرأة لا تزال ضحيّة العنف الذي يمارَس ضدّها على مستوى العالم كلّه». ولا بد من رفع العنف عنها، سواء أكان عنفاً جسدياً أم اجتماعياً أم نفسياً أم تربوياً أم داخل البيت الزوجي».
بروحية العارفين، أي من أنعم الله عليهم بلطفه، انتقد فضل الله مكامن الخلل في الذهنية الاعتقادية، فصاغ اجتهادات تنويرية، وخصوصاً إذا ما جرت مقارنته بأبناء جيله من أصحاب العمائم على ضفتي الإسلام السنّي والشيعي، وهو القادم من محيط متعدد، عرف باكراً أن تنوع الهويات الدينية لا ينتج التغالب وفق العنف السياسي السائد، وإنما يسهم في إغناء الواقع. فالوحدة التي دعا إليها مراراً وتكراراً تتمخض من التعدد.
السيد الذي انتصر للمرأة، دعا الى فتح الحوار بين الشيعة والمذاهب الأخرى، وتحديداً التيارات السلفية ومنها الوهابية. الحوار عنده يحتاج إلى «النيات الصادقة والانفتاح والصراحة العلمية». مطالبة فضل الله بالحوار الشيعي ـــــ الوهابي، لم تكن جديدة، غير أنها اتخذت مساراً تصاعدياً بعد السقوط المدوّي لبغداد، وما نجم عنه من حروب مذهبيّة، ذهب ضحيتها أبناء الإسلام، فخاطب هؤلاء بعقل الرائي، بعدما أخافته حال العراق.
دعوة فضل الله إلى الحوار الإسلامي ـــــ الإسلامي عبر النزول إلى الميدان لإنتاج حراك فكري بين المثقّفين السنّة والشيعة، يحطم متاهات التكفير والتكفير المضاد، شغلت باله منذ أن اتخذ لقب «المجتهد»؛ وهو ربما بحواريته مع الذات والآخر، تأثر بمقولة السيد عبد الحسين شرف الدين أحد أبرز أئمة جبل عامل، الذي قال: «الشيعة والسنّة جدولان من نبع واحد فرّقتهما السياسة وستجمعهما لاحقاً تحت عباءة أمة إسلامية واحدة».
الوحدة، المرأة، نبذ العنف، لم تكن هذه الثلاثية هاجسه الوحيد، فقد تعمّم بالتجديد الديني، وعمل عليه. وتجديد الفكر الديني، وإصلاحه، يتمثلان في الفهم الصحيح أي في «أن نؤصِّل الفهم الديني من خلال التعمق في النص الديني، وفي امتداد هذا النص، كي يكون النص الديني للحياة كلّها، لا أن نحبسه في زنزانةٍ ضيقةٍ من خلفياتنا الضيقة، التي قد تكون مما نعيش معه في الماضي أو نسقط بسببه في وحول الواقع».
فهل هناك خطاب أشد عقلية في الرد على تيارات الدوغمائيين والأصوليين وسواهم مما خلص إليه العلّامة الراحل؟ فهؤلاء بالنسبة إليه لا يتدبّرون النصَّ، ولا يتفاعلون مع العنصر التاريخيّ الكامن فيه، وهنا تكمن معضلة المعضلات، فإشكالية الإسلام التاريخي مصدرها التعاطى مع النص القرآني، من دون جداله، ما أدى الى إقصائه عن منهج «الحركية» التي نادى بها السيد فضل الله في طروحاته، ولا سيما في كتابه الأخير.
ولفوضى الفتاوى التي تتسع دائرتها عبر الفضائيات، اجتهادات كثيرة عند السيد فضل الله العالِم والمجتهد؛ ولكن الأهم من ذلك عدم حصرية التأصيل وتطوير الاجتهاد برجال الدين فقط، فقد رأى «أن من حق كلّ مثقفٍ يمتلك المعرفة الدينيّة من خلال أصولها، ويمتلك اللغة العربيّة، ويمتلك الآفاق التي تتحرك فيها تلك المعرفة الدينية، أن يفسّر القرآن بحسب ثقافته، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم، دينيّاً أم علمانيّاً».
السيد فضل الله الذي جادل العالم، بقدر حيوية الواقع ومتغيراته، مثّل ظاهرة تحتاج الى قراءات علمية، سينشغل بها ورثته من العقلانيين، ورحيله الذي لم يكن مفاجئاً، بعدما انتصر على الموت بالعقل، سيترك فراغاً كبيراً أقله على الساحة، وربما يكون آخر رجال الدين المتنورين، في الأزمنة المغلقة.