سعود المولىبرحيل العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، تقفل دائرة المرجعيات الفكرية والحركية للإسلام الشيعي المعاصر...
ولست هنا أدعو إلى انتقاص قيمة أي عالم أو مرجع أو مناضل وقائد في الحركة الإسلامية الشيعية، بل أقول إنّ جيلاً كبيراً من العظماء الخالدين قد انطوى بموت السيد وانطوت معه صفحة مجيدة من تاريخ الفكر الشيعي والجهاد الشيعي في هذا العصر...
كانوا مجموعة ذهبية جمعتهم النجف في منتصف القرن العشرين... لم يكونوا قد تجاوزوا العشرينيات من عمرهم (ولدوا ما بين عامي 1933 و1936)... تركهم موسى الصدر في عام 1959 ليعود إلى لبنان وينخرط في تثبيت ركائز خطه الوطني الليبرالي الإصلاحي الشيعي المرتبط بخط رفاقه الإيرانيين مهدي بازركان وآية الله طالقاني وعلي شريعتي... وبقي الخمسة في النجف يؤسسون معاً حزب الدعوة في عام 1957 وجماعة العلماء في عام 1959 ومجلة الأضواء في عام 1960... محمد باقر الصدر (استشهد 1980)، مهدي الحكيم (استشهد 1988)، محمد مهدي شمس الدين (توفي 2001)، محمد باقر الحكيم (استشهد 2003)... وآخر العنقود السيد فضل الله.
وكما جمعتهم النجف، فرقتهم السياسة والحزبيات.
حين عاد فضل الله إلى لبنان (1966)، باشر بتأسيس حيّزه الحركي الخاص من خلال العمل على مستويين: مستوى بناء كوادر الدعوة، ومستوى بناء المؤسسات...
فكان مميزاً في المستويين... وعاد شمس الدين في عام 1969 ليشارك فضل الله في عمله (1969ـــــ1983) ثم ليحاول الجمع بين فضل الله وموسى الصدر (1975ـــــ 1978)، ثم ليفترق نهائياً عن فضل الله (1985) ولتتوسع الشقة بينهما بعد حرب أمل ـــــ حزب الله (1988ـــــ1991).
مع الثورة الإسلامية الإيرانية، جرت تحولات كبرى في الوضع الشيعي، نتج منها إعلان حل حزب الدعوة اللبناني (1981)، ثم البدء بالعمل على تأسيس حزب الله والمقاومة الإسلامية... وهنا كان فضل الله على موعد مع التاريخ الذي سطع فيه نجمه وجعله يبرز مرشداً روحياً للحزب وفقيهاً داعماً للثورة الإيرانية وللمقاومة الإسلامية.
لعل سمته الأبرز بقاء مرجعيته قريبة من الناس ومن الكوادر الحزبية والمقاومة
إلا أن التاريخ الحركي والصراعي جعله يفترق لاحقاً عن إيران والحزب حين طرح رسالته العملية ومرجعيته الفقهية في ظرف كان فيه الإيرانيون يجمعون الدعم والتأييد لمرجعية السيد خامنئي... فبعد وفاة الإمام الخميني (1989) انتخب خامنئي قائداً ومرشداً للثورة، إلا أنه لم يكن مرجعاً للتقليد (عُدِّل الدستور من أجل انتخابه)... وكان فضل الله يحظى بمقلدين وبسمعة لم تكن كافية لدى علماء قم والنجف لتثبيته مرجعاً معترفاً به. يومها، شُنَّت عليه حملات تجريح قاسية (1997ـــــ 1998)، ولم تتحسن العلاقات بينه وبين الحزب وإيران حتى عام 2005ـــــ 2006.
تختلف معه (وأنا كنت من الذين اختلفوا معه وفارقته للعمل مع رفيق دربه السابق الشيخ شمس الدين)... إلا أنك لا تستطيع إلا تقدير هذا الإنسان الإنسان ومحبته في لحظات الخلاف وفي حالات الوفاق. فهو لا يشعرك بأي سلبية حتى في أشد لحظات الخلاف والصراع... كأنك مع أحد كبار النجف القدامى.
من إنجازات فضل الله المهمة تلك المؤسسات التي تشهد له بالكفاءة التنظيمية والمقدرة القيادية والإدارية. ومؤسساته صارت مضرب المثل في كل البلدان والقطاعات. ومن إنجازاته أيضاً، فكره السياسي المتوثب أبداً نحو مواجهة الإشكاليات، بحيث كان له الأثر الأكبر في فكر الدعاة الحزبيين الإسلاميين في الوسط الشيعي. وهو تأثر في شبابه النجفي (كما رفيق دربه باقر الصدر) بكتابات سيد قطب والمودودي كما بتجربة الإخوان وحزب التحرير.
وكان فضل الله من الذين فلسفوا وعمقوا فكر العمل الحزبي الإسلامي الشيعي في مقالاته الشهيرة في مجلة المنطلق مطلع الثمانينيات. وفي استمرار أطراف حزب الدعوة المتصارعين والمنشقين في الرجوع إليه ونشدان تحكيمه.
ومن إنجازاته أيضاً تحديه الجريء للممنوعات والمحظورات الفقهية الشيعية ولم يسبقه في ذلك أحد من كبار العلماء، حتى إنه واجه معارضات تقليدية شرسة وصلت إلى حدّ تكفيره أو الحكم بضلاله وابتداعه أموراً ليست من الدين. وهو يذكرك في ذلك بكبار عصر التنوير الأوروبي وفلاسفة الموسوعة.
ولعل السمة الأبرز من سمات المرجع فضل الله بقاء مرجعيته قريبة من الناس ومن الكوادر الحزبية والمقاومة. وهو في ذلك لم يكن كغيره، وقد شذّ عن خصوصيات المرجعية التقليدية في النجف.
رحم الله العلامة المرجع السيد فضل الله...
سنفتقده علماً من أعلام الفكر الإسلامي الحركي المقاتل ورائداً من رواد الحوار والتفاهم بين الناس... سنفتقد جرأته وصبره وعناده في تقديم الجديد ومقارعة التقليد والجمود...
سنفتقد شاعريته وحساسيته التي تذكرني بشاعرية رفاقه في النجف محمد حسن الأمين وهاني فحص وقد نظما الشعر مثله واعترفا له بالسبق.
سنفتقد صلابته التي تشبه صلابة كبار الماركسيين واليساريين الأمميين من الجيل القديم...
سنفتقد موقفه الممانع والمقاوم على الأسس التي طرحها هو والتزم بها...
ونفتقد كذلك هذا الالتزام المميز في حياته وجهاده...