حسين بن حمزةبطريقة ما، كان محمد حسين فضل الله مبدعاً أو يشبه المبدعين في جانب من سيرته. كان أقرب إلى الشعراء والمفكرين مقارنة بالصورة التقليدية لرجال الدين، وخصوصاً المتجهّمين منهم وأصحاب المنطق الجاف الفاقد للمرونة والانفتاح. نقرأ كتاباته وفتاواه، فنحسّ بأنه كان مفكراً متنوراً ضلّ طريقه إلى حوزات النجف. العالِمُ النجفي لم يمنع نفسه من الاستئناس بآراء المفكر الحرّ والشجاع الذي في داخله. لم يؤخِّره الفكر عن قيامه بكل واجباته واجتهاداته الدينية، ولم يمنعه التديُّن من تسريب عدة المفكرين وذخيرتهم إلى ممارسته الدينية. هكذا، كسب الرجل أصالة المعتقد والإيمان، ولكن بعد تقليبه على نار الحياة وتطوراتها. حكَّ فضل الله الدين بالواقع، ونزَّه المفاهيم الإجرائية والآراء الفقهية بين العامّة. احتكم إلى العقل قبل القياس على المعايير الجامدة. وجد صيغة حيوية ومرنة لمخاطبة النخبة والجمهور معاً، ولهذا حظي بتقديرٍ عابرٍ لحدود المذهب أو الدين. اختلف مع المرجعيات التقليدية في المنطق الذي يُفترض أن يحكم الجزئيات الصغيرة والتطبيقات الحياتية للشريعة. لم يقلِّد أحداً ولم يطالب أحداً بتقليده، فتحول إلى مرجعية من نوعٍ مختلف، مرجعية نابضة ومنخرطة في الحياة السياسية والاجتماعية والفقهية، مرجعية تضع في حسبانها مصلحة الإنسان أولاً، وتحاول تكييف الشرط الديني مع الشرط الحياتي والواقعي. هكذا، أخرج فضل الله الممارسة الفكرية والفقهية من حبس النصوص ونقاوتها الأزلية، وعرَّضها لهواء الواقع المتغيّر. كان مؤمناً بأن النص يقوى ويتعزز بارتطامه بالواقع والحياة. لم يخاطر الرجل بالثوابت بالطبع، ولكنه جعل هذه الثوابت تعوم على سطح التطبيق الواقعي واليومي. آمن منذ شبابه المبكر بما سمّاه الإسلام الحركي أو التفكير بالإسلام بطريقة حركية غير جامدة.
وجد صيغة لمخاطبة النخبة والجمهور وحظي بتقديرٍ عابرٍ للمذهب أو الدين
كان في العاشرة حين أصدر مع ابن خالته السيد مهدي، نجل العلامة محسن الحكيم، مجلة «الأدب» التي وُزِّعت بخط اليد. ثم جاءت تجربة مجلة «الأضواء» التي كان يكتب افتتاحيتها الثانية بعنوان «كلمتنا». كان ذلك تأسيساً نظرياً متماسكاً سيجدُ تحدياته الواقعية بعد عودته إلى لبنان. لا نريد هنا تكرار كرونولوجيا زمنية لسيرته الذاتية المعروفة، بل لنشير إلى مكوِّن مهم لدى سماحته، وهو أنه لم يتعلم النصوص في الحوزة النجفية بمعزل عن الواقع المعيش. كان يدرك أن مشكلة الحوزات العلمية تكمن في كونها معزولة عن الواقع، وأن الدارس فيها يبدأ بالكتاب وينتهي بالكتاب، حيث يتبحَّر في النصوص مقابل جهلٍ أو غربة كاملة عن الواقع الموضوعي الذي على أساسه ستُشتقُّ الأحكام التطبيقية. في هذا السياق، كان فضل الله مفكراً رأى فيه الناس كاريزما دينية مقترنة بمواكبة حثيثة وفاعلة لقضايا حياتهم ومستجداتها. مواكبة جرى فيها «إخراج النص الإسلامي من الأفق التجريدي ليصبح نصاً للحياة»، بحسب تعبيره في إحدى المقابلات. خلافه مع المرجعيات الدينية الأخرى موجود في هذه الرؤية، إذْ فضّل هو تسريب النص إلى فضاء الاجتهاد، بدلاً من تنزيهه عن الواقع بذريعة الحفاظ على صفائه ونقاوته.
كان فضل الله مجدِّداً من داخل المؤسسة الدينية. إنه يشبه بعض المفكرين اليساريين والعلمانيين الذين انتقدوا الخطاب الديني من الخارج. لم يكن متوقعاً منه أن يكون مثل علي عبد الرازق أو صادق جلال العظم أو نصر حامد أبو زيد. هؤلاء انتقدوا الخطاب الديني من زاوية مختلفة. أهمية فضل الله تكمن في أن صوته النقدي والاجتهادي جاء من الداخل، وكان أكثر قبولاً وأشد تأثيراً على الذهنية اليومية لمريديه وأنصاره. النقد الآتي من الخارج غالباً ما يظل تأثيره محصوراً بفئات النخبة والمثقفين، ويجد صعوبات هائلة في التسلل إلى وعي المؤمنين البسطاء. بهذا المعنى، يمكن القول إن فضل الله كان مفكراً غلَّب الممارسة الحياتية والبراغماتية على التنظير المحض. الهالة التي أحاطت باسمه مردّها إلى أنه استخدم عُدَّة المفكر التي حصَّلها في قضايا ومسائل واقعية وملموسة. واللافت أنه مارس ذلك وفق رؤية دينية لا تقبل الركود ولا تجد حرجاً في اقترانها بعقلانية متفتحة يندر وجودها لدى رجال الدين عادةً. هكذا، كسب الرجل محبة وإعجاب الإنسان العادي الباحث عن فتاوى وتأويلاتٍ شرعية تتلاءم مع حياته الراهنة ولا تتعارض، في المبدأ، مع الشريعة نفسها. لن نعدِّد هنا الفتاوى التي أباح فيها ما لا يُباح، ولكننا نتذكرها لإظهار حقيقة أن الراحل الكبير سخَّر أفكاره واجتهاداته في مجاراة الواقع بهدف الوصول إلى إسلام متحرك وحيوي قادر على التكيّف مع تطورات الحياة والعلم. بقليلٍ من المجازفة، يمكن النظر إلى سيرة فضل الله باعتبارها سيرة إبداعية. الإبداع لم يكن غائباً عن سيرته المزدحمة بالإنجازات. لا ننسى أن فضل الله كان شاعراً. ولعله بدأ شاعراً وانتهى مفكراً ومرجعاً دينياً، ولكنه، في أي حال، لم يبتعد كثيراً عن مناخات الوجد الصوفي والبوح الإنساني، بل إنه رثى نفسه بنفسه قبل رحيله، كاشفاً عن سماحة روحه وزهده بالدنيا: «في دروب السبعين يُسرعُ بي الـ/ خطوُ فماذا في الملتقى المأمولِ/ ربِّ عُدْ بي إليكَ حراً نقياً/ طاهرَ الروح كالنسيم البليلِ/ لأعيشَ الروحَ المندَّى برضوا/ نكَ حياً كهينماتِ الأصيلِ».