مهى زراقطالمواظبة على إحياء العبادات في المسجد سلوك اتبعه فضل الله طوال حياته، التي يصفها المقربون منه بأنها كانت مليئة بالعمل. يقول عبد الله إن السيّد لم يكن يتخلّف عن إمامة المسجد حتى في أحلك الظروف، ويذكر كيف أمّ المصلين في جامع بئر العبد خلال الحرب في عام 1989، على الرغم من القصف الذي كانت تتعرّض له المنطقة يومها، وعدم وجود أكثر من 25 شخصاً في المسجد. يومها قال لهم: «أيها الشباب، أنا أتقوّى بكم».
الشباب كانوا رفاقه، والأطفال أيضاً، وهو الذي فتح لهم المسجد. يذكر أحد تلامذته حسين جفال أنه كان يدخل المسجد فتى مع رفاقه، مرتدين ثياب كرة القدم، فشكاهم أحد الرجال المسنّين إلى السيّد قائلاً: «كيف تسمح لهم بالدخول إلى المسجد وهم يرتدون الشورتات؟». أجابه السيّد: «هذا جيل المستقبل. من سيدخل المسجد إن لم يكن هم؟ أين سيتربّون إذا لم يدخلوا إلى المسجد؟».
السيّد كان يربّي. هو نفسه كان يستخدم هذه العبارة. عندما سأله المقرّبون منه مرة عن سبب تكراره دروساً معينة في الدين أمام أشخاص سمعوها منه، أجاب: «أنا هنا لا أثقّف فقط، بل أربّي». ولأنه يربي، يتعامل الكثيرون مع حدث وفاته كشأن شخصي. هي وفاة والد، كما هي وفاة مرجع.
ترك السيّد فضل الله وصية تحفّظ المعنيون عن إعلان عناوينها
صحيح أنها لم تكن وفاة مفاجئة، إلا أن وقعها بقي مؤلماً، وخصوصاً أن كثيرين كانون يتوقعون أن يخرج الأطباء في اللحظة الأخيرة ليعلنوا تماثل السيّد للشفاء. هذا ما حصل في المرتين الأخيرتين. المرة الأولى كانت في شهر تشرين الثاني 2009، عندما دخل إلى مستشفى الجامعة الأميركية. يومها كان مريضاً جداً وقد زاره السيد حسن نصر الله، فما كان من فضل الله إلا أن بادره بالقول: لمَ أتيت؟ كيف تعرّض نفسك للخطر؟ فأجابه: هذا واجبي. ويذكر هاني عبد الله أن السيّد كان مريضاً جداً ومتألماً، وقد لاحظ نصر الله الأمر فغصّ بدموعه حتى لم يعد قادراً على مجاراة الحديث.
المرة الثانية كانت في 14 شباط من العام الحالي. كان فضل الله مريضاً جداً وتخوّف المقرّبون منه من إعلان الوفاة، إلا أنه تماثل للعلاج وتحسّن مساءً. يذكر عبد الله أنه عاد منهكاً إلى بيته لينام، في وقت كان فيه النائب نواف الموسوي ضيفاً على إحدى شاشات التلفزة. في اليوم التالي، عاد الموسوي السيّد فضل الله في المستشفى، فقال له السيّد: لقد استمعت إلى مداخلتك أمس وكانت رائعة جداً.
أما في المرة الأخيرة، أي قبل أسبوعين، فقد دخل فضل الله إلى المستشفى وتحسّن تدريجاً؛ إذ كان من المتوقع أن يخرج يوم الجمعة منها. إلا أن السيّد فضل الله لم يبلّغ زوجته بالأمر في اتصاله الهاتفي الأخير معها على الرغم من أن ابنه إبراهيم طلب منه ذلك. وعندما سأله ابنه لماذا لم يبلّغ أمه بالعودة، أجابه بآية من القرآن: «ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً، إلا أن يشاء الله».
كان السيّد يشعر بقرب الرحيل، نشر ديوانه الأخير (في دروب السبعين) الذي طلب رؤيته مرتين قبل وفاته. كتب وصيته التي ينتظرها كثيرون، وستُعلن في الوقت المناسب؛ إذ رفض عبد الله الإدلاء بأي تفصيل يتعلق بها. فالتحضيرات اليوم مرتبطة بالتشييع، الذي تبدأ مراسمه بعد صلاة الظهر من أمام دارة الراحل في حارة حريك. وسيسلك موكب التشييع الشارع العريض، ليصل إلى مسجد الإمام الرضا في بئر العبد، ثم إلى محلّة السندريلا ليتوقف في الموقع والمكان الذي كان قد تعرض فيه السيّد لمحاولة الاغتيال عام 1985. بعدها ينطلق إلى المشرفية ويسلك طريق مستديرة المطار ـــــ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى باتجاه مسجد الإمامين الحسنين حيث سيؤدي الصلاة على الجثمان شقيقه السيد محمد علي فضل الله، قبل أن يوارى في صحن المسجد.


خامنئي وازهر

تواصلت أمس وفود المعزّين بوفاة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، إلى مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك من سياسيين ورجال دين ووفود شعبية. وفيما شمل الحداد عدداً من قرى الجنوب، أعلن رئيس مجلس الوزراء أمس «الحداد الرسمي اليوم على السيد فضل الله، بحيث تقفل الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات وكذلك الجامعات والمدارس الرسمية والخاصة، وتنكس الأعلام على الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات لمدة ثلاثة أيام ابتداءً من اليوم، كذلك تعدّل البرامج العادية في محطات الإذاعة والتلفزيون، بما يتوافق مع هذه المناسبة الأليمة».
ومن أبرز المعزّين أمس رئيس مجلس النواب نبيه بري، رئيس تكتل الإصلاح والتغيير النائب ميشال عون، قائد الجيش جان قهوجي، رئيس حزب الكتائب أمين الجميل، عميد حزب الكتلة الوطنية كارلوس إده، مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني.
وأصدر المرشد الأعلى في إيران السيد علي خامنئي بياناً قدّم فيه تعازيه إلى جميع أتباع فضل الله. أضاف البيان أن «المقاومة الإسلامية في لبنان حظيت على مدى تاريخها بالدعم والتعاون والمساعدة من هذا العلامة المجاهد. لقد كان أيضاً مناصراً صادقاً وقريباً للجمهورية الإسلامية وأثبت خلال الأعوام الثلاثة الماضية في خطاباته وممارسته ولاءه للثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية». وأوفدت إيران وفداً رفيعاً للمشاركة في التشييع. وكان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قد قدم تعازيه بوفاة فضل الله، وقال في رسالة موجهة إلى الرئيس اللبناني ميشال سليمان إن «الخدمات التي قدّمها رجل الدين الوقور هذا لمصلحة الوحدة الوطنية وإصراره على المقاومة سيظلان في تاريخ لبنان».
وبعث ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، ورئيس حكومتها الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة برقيتي تعزية لعائلة فضل الله، ونعى المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في البحرين فضل الله، مشيراً إلى أنه أسس لوحدة إسلامية بين المذاهب.
وأبرق وزير خارجية جمهورية مصر العربية أحمد أبو الغيط معزياً بفضل الله الذي «افتقده لبنان والعالم العربي والإسلامي عالماً جليلاً وداعية مرموقاً وصوتاً مكبراً بإعلاء قيم الحق والتسامح والاعتدال والتعايش المشترك بين الحضارات والأديان».
وأعرب الشيخ جوعان بن حمد آل ثاني نيابة عن دولة قطر أميراً وحكومة وشعباً عن صادق التعازي للشعب اللبناني الشقيق برحيل العلامة السيد محمد حسين فضل الله.
ونعى الأزهر الشريف، شيوخه وعلماؤه وطلابه، إلى الأمة العربيّة والإسلاميّة وإلى الشعب اللبناني «الشقيق العلامة سماحة السيد محمد حسين فضل الله الذي لقي ربه راضياً مرضياً بعد حياة حافلة أمضاها في نشر العلم النافع وعمل الخير والدفاع عن وحدة الأمة وثوابتها». وأبرق شيخ الأزهر أحمد محمد الغريب إلى نجل العلامة فضل الله السيد علي معزياً.