ابراهيم الأمينمنذ زمن غير قصير تملك الجهات المعنية في حزب اللّه معلومات وافرة عما يجري في لجنة التحقيق الدولية، منذ أيام ديتليف ميليس وبعده سيرج براميرتس، ثم مع مجيء دانيال بلمار. كان حزب الله في قلب الموضوع. عناصر الاتهام التي عمل فريق الادعاء السياسي على جمعها، احتاجت إلى جهود بُذل قسم كبير منها في لبنان. وهذه الجهود معروفة بحدها الأدنى من حانب الحزب، إن لم يكن أكثر.

وجهاز المقاومة الأمني لم يتوقف عن متابعة كل ما من شأنه تكوين خطر على المقاومة، بما في ذلك ملف التحقيق نفسه، وخصوصاً أنّ المعطيات السياسية لم تكن تحتاج إلى كثير شرح ليعرف الحزب أنه المستهدف الأول والأخير.
إلا أنّ طريقة مواجهة قيادة الحزب لهذا الملف تبدّلت بعد عدوان تموز عام 2006 عمّا كانت عليه قبل ذلك التاريخ. وهو ما لمسه الطرف الآخر الذي تصرّف بارتباك إضافي، بعدما أظهر الحزب خلال مواجهات تموز قدرات مفاجئة على إدارة الملفات الميدانية والسياسية والدبلوماسية. كما أبرز خبرة أمنية خاصة، ربما كان كثيرون في لبنان ـــــ كما في إسرائيل ـــــ يشكّكون في أصل وجودها. وكانت نتائج الحرب وحدها كفيلة بتنبّه الأجهزة الأمنية اللبنانية والعربية والدولية للتعامل بطريقة مختلفة مع الحزب. وخصوصاً أنّ فرع المعلومات ـــــ على سبيل المثال ـــــ تصرّف في مرحلة معيّنة على أنه مخترق من أمن حزب الله، وأن الكثير من المعلومات التي يعمل عليها الفرع تصل إلى الحزب عبر مصادر بشرية وربما غير بشرية، أو هذا على الأقل ما يردّده ضباط كبار في الفرع، من الذين يشكون من استمرار أزمة الثقة بينهم وبين الحزب، رغم ملف التعاون الكبير في ملاحقة شبكات التجسّس لمصلحة إسرائيل.
وإلى جانب التحقيقات التي شملت العشرات من أصدقاء الحزب وحلفائه، من موظفين وشخصيات سياسية وإعلامية وإدارية وغيرها، فإنّ الحزب تعامل مع ملف الاعتقال التعسفي للضباط الأربعة على أنه قضية تخصّه. وإن كان هناك سيل كبير من الملاحظات التي يبديها معنيون بالأمر على بعض الأمور، لكن المحصّلة تشير إلى أن الحزب تبنّى قضية هؤلاء الذين ظُلموا، وعمل بقوة على دعمهم ومنع التعرّض لعائلاتهم، وسعى مراراً إلى إنضاج تسوية سياسية تخرجهم من السجن، لكنه كان يحاذر الاصطدام المباشر بالرئيس سعد الحريري قبل توليه رئاسة الحكومة وبعدها. حتى عندما وقعت أحداث السابع من أيار، لم يبادر الحزب ـــــ وكان بمقدوره أن يفعل، لو أراد ـــــ إلى ممارسة شكل آخر من الضغط لإطلاق سراحهم. عدا أنّ الضبّاط أنفسهم كانوا قد رفضوا أمراً من هذا النوع، لأنهم كانوا يسعون بعد فترة من الاعتقال إلى الحصول على براءة من المحكمة الدولية نفسها، لا من القضاء اللبناني الذي أظهرت التطورات أنه لم يكن خارج دائرة قرار اعتقالهم التعسفي لنحو 4 سنوات.
قبل أكثر من عام، عندما قرّر قاضي الأمور التمهيدية إطلاق سراح الضباط الأربعة بناءً على توصية المدعي العام في المحكمة الدولية، تصرّف الحزب ـــــ كما قوى سياسية أخرى في البلاد ـــــ على أساس ان ما حصل قد يكون كافياً لطيّ صفحة. لكن الحزب أخطأ كما قوى أخرى في المعارضة، من الرئيس نبيه بري إلى آخرين ـــــ ما عدا العماد ميشال عون ـــــ عندما لم يبادر إلى طرح الموضوع على الحكومة وأمام رئيس الجمهورية وعلى طاولة الحوار الوطني. يومها قيل كلام كثير عن أهمية الهجوم على الفريق اللبناني والإقليمي والدولي الذي سبّب اعتقال هؤلاء، والضغط لطرح قضية شهود الزور وفبركة الأدلّة وتورّط موظفين وشخصيات لبنانية في الأمر، على طاولة المراجعة والمحاسبة. وكانت نتيجة هذا الخطأ، أن استعاد فريق الادّعاء وجيش المفبركين حيويته وإمساكه بزمام المبادرة ليصل بالأمور إلى ما وصلت إليه اليوم.
كانت هناك وجهات نظر مختلفة حيال طريقة التصرف. والأكيد بعد مراجعة أربعة أعوام، أن في قيادة الحزب، العليا أو التنفيذية، من كان يملك رأياً لا يستند إلى حقائق كبيرة، أو كان لديه تقويم غير دقيق لوضع الفريق الآخر، إلا إذا كانت هناك اعتبارات ليست معروفة للمتابعين. وقد أدّى ذلك إلى تراكم الأمور إلى حدود باتت معها الدعوة إلى المحاسبة أو المراجعة صعبة، حتى وصلنا إلى يومنا هذا، حيث يعتقد كثيرون أن المطالبة بالتحقيق ما كانت لتحصل لولا وصول الحزب إلى قناعة معلوماتية وتحليلية بأن قرار اتهامه قد اتُّخذ. وهو أمر يؤثّر سلباً في أصل هذه الدعوة، وإن كان لا يمسّ أحقيتها وشرعيتها وضرورة السير بها حتى النهاية.

أخطأ حزب الله عندما فوّت فرصة المطالبة بمحاسبة المزوّرين مباشرةً بعد إطلاق سراح الضباط

نتجه نحو خطوة قاسية ما لم يحمل الملك السعودي دلواً كبيراً من المياه الباردة يلقيها على الرؤوس الحامية
الآن، ثمّة معركة مفتوحة بشأن المحكمة والقرار الاتهامي، وقد ينقص أن ينشر حزب الله ما لديه من وثائق ومعلومات عن عمل أجهزة أمنية لبنانية وعربية ودولية في فبركة أدلة وتقديم معلومات تخدم فكرة اتهام عناصر من الحزب بالتورّط في جريمة اغتيال الحريري. لكن الأمر لن يكون على هذه الصورة، وخصوصاً عندما يكون الحزب في وارد البقاء ـــــ الآن على الأقل ـــــ في مرحلة تنبيه الطرف الآخر إلى خطورة ما يقوم به على هذا الصعيد. لكنّ ردود الفعل الحقيقية الآتية من الجانب الآخر، لا تشير إلى استعداد حقيقي للتراجع عن الجريمة القائمة، بل هناك معلومات ومؤشرات تدل على نية هذا الفريق التصعيد والمضيّ حتى النهاية في لعبته، آملاً دعماً إقليمياً وخارجياً يعوّض ما فاته في أيار عام 2008، وهو الأمر الذي سيدفع الحزب إلى خيارات غير محمودة.
وفي هذا السياق، لم يتأخر الوقت كي يقوم الحزب بحملة واسعة، تشمل فئات مختلفة من الشعب اللبناني، وقواه الفاعلة على اختلاف مواقعها، وتتوجّه إلى جهات عربية ودولية، وخصوصاً ما يتعلق بالرأي العام، في سياق توضيح حقيقة ما يجري، وتهيئة المسرح لأي خطوة قاسية، يبدو أننا نتجه إليها ما لم يحمل الملك السعودي دلواً كبيراً من المياه الباردة يلقيها على الرؤوس الحامية المنتشرة في «الوسخ التجاري» ومحيطه، لأنه متى أمكن إشراك كثيرين في معركة رفض المؤامرة على المقاومة، فسيشعر عملاء أميركا وإسرائيل الكبار والصغار على حد سواء بدرجة أعلى من العزلة، وسيشعر الجمهور الراكض خلف هؤلاء بأنّ الخيارات العشوائية باتت تمسّ المصالح الأساسية للعيش بأمان.
المهم في ما سبق ألّا يخرج بعض القادة في الحزب معتبراً هذا الكلام «أسْتَذة في الوقت الضائع»، وخصوصاً أولئك الذين يرفضون الاستفادة من تجارب غيرهم.