كان عدد المرشحين الأرمن قليلاً في بلدات ساحل المتن الجنوبي، مقارنةً بعدد مرشحي الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، لكنّ حضور الماكينة الانتخابية الأرمنية ضاهى حضور ماكيناتها. لم يتململ أحد منهم. صوّت معظمهم، ودائماً... تحت عباءة الطاشناق
أحمد محسن
أحد مقارّ بلدية برج حمّود تحت النفق. ليس تحته بالضبط، بل يمكن القول إنه في داخله تماماً. المقرّ لأشغال البلدية التي انتهت معركتها الانتخابيّة بالتزكية، وكانت النتيجة هذه معلومة قبل الاتفاق على إجراء الانتخابات أصلاً. على الأقل، اللافتة المعلقة داخل النفق المؤدي إلى برج حمود، من جهة الدورة، تؤكد أن قسم الأشغال المقصود (العالق في النفق) تابع للبلدية، فاسمها مخطوط عليه بالأسود العريض. هناك، يغطّ المركز في سكون عميق، بعيداً عن صخب البلديات والتوافقات الأخرى. يتظلل بفيء الجسر العملاق. يعزل المنطقة ـــــ شكلياً ـــــ عن المناطق الملاصقة. بعد النفق، وبعد مقرّ البلدية: الصمت نفسه. ينسحب مشهد الهدوء على الساحات كلها في برج حمود. ذكرى المجزرة القديمة تُلقي بثقلها على الجدران. الإعلانات الملصقة للتذكير دليل على ذلك. لا ضجيج في شارع أراكس. أغلق السوق المعروف أبوابه باكراً. فتحت بعض الأفران أبوابها، إضافة إلى بائعي أعلام الفرق المشاركة في كأس العالم، وأعلام أرمينيا... وحزب الطاشناق طبعاً. الأمر محسوم في برج حمود. لكن التزكية في «القلعة الأرمنية»، لا تعني أبداً أن سكانها نيام. ببساطة، الجميع منكبّ على العمل لدعم مرشحي الطاشناق، المنتشرين بين بلدات ساحل المتن الجنوبي.
في سد البوشرية ـــــ الجديدة، يصعب التصديق أن الطاشناق يخوض الانتخابات بمرشح واحد فقط لعضوية البلدية، ومرشح آخر لصفة مختار. حسناً: كثافة اللون البرتقالي مفهومة في المنطقة، فالتيار الوطني الحر يَعُدّ ساحل المتن منطقة نفوذ. كثرة أعداد السترات الزرقاء باتت مألوفة في المتن، لأن مناصري الرئيس ميشال المر يعتمدون هذا اللون. الحضور الحزبي الكتائبي والقواتي سهّل التفسير هو الآخر: أرزة مثلثة هنا، أو صليب مشطوب هناك، وسلسلة أخرى من المشاهد الكلاسيكية التي يُفترض ألّا تمثّل معياراً دقيقاً لقياس الحضور الانتخابي لماكينات الأحزاب. المفارقة الكبرى، أن حزب الطاشناق يوازي الجميع في الحضور، وفي نشاط ماكينته الانتخابية. رغم أن اللائحة في الجديدة «توافقية»، ورغم أن الأرمن غير ممثلين بأكثر من عضو بلدي ومختار واحد، كانوا كخليّة النحل: حاضرون قبل الجميع. ولعل السمة الأبرز التي طغت على الصباح الانتخابي في الجديدة تحديداً هي الحضور الأرمني المبكر. الآخرون أتوا في معظمهم متأخرين. منذ الثامنة تقريباً، وقبل أن ينتصف النهار، لم تتوقف السيارات الموشومة بعلم الطاشناق عن الحضور إلى مركز الاقتراع. يستقبلها مندوبو الحزب فوراً، بقمصانهم البيضاء، التي كتب عليها اسم الحزب من الخلف، بالعربية والأرمنية. السيارات منظمة هي الأخرى. كل سيارة تحمل رمز T أو A، أضيف إليها رقم، حسب توزيع المناطق

أكد مسؤولون في ماكينة الطاشناق أن نسبة اقتراع الأرمن 70%
وترتيبها. وبدا لافتاً أن المقترعين الأرمن مختلفون عن المقترعين الآخرين، إذ إنهم لا يسألون أبداً عن أية لوائح. يعرفون مرشحيهم ولا يحتاجون إلى المندوبين، إلا ليرشدوهم إلى مراكز الصناديق. وفي الجديدة، مندوبو الطاشناق راضون عن «سير التوافق». لا يعلقون كثيراً على التحالفات السياسية. لديهم مهمة محددة، تقتضي بتسهيل عمل الناخبين، وهم ملتزمون بذلك. أكثر من ذلك، فإن التوتر الانتخابي الذي ساد في الجديدة صباحاً، والذي اتهم فيه بعض العونيين حزب الكتائب بتبادل أصوات مع اللائحة المقابلة للائحة التوافق (فيما رحب بعضهم بالتزام القواتيين)، لمصلحة مرشحين كتائبيين، لم يعن الطاشناق شيئاً. تحالفهم متين مع التيار الوطني الحر، وهم جزء من تكتل التغيير والإصلاح، لكن لا يأخذون كثيراً بالتجاذبات بدون قرار حزبي، وما دام مرشح الطاشناق «مرتاحاً لوضعه» فهم «مرتاحون لوضعهم»، من دون أن يؤثر ذلك على علاقتهم القوية بالعونيين. وللمناسبة، العونيون يبادلون الطاشناق الاحترام: سن الفيل نموذجاً. هناك، يتجلى التعاون العوني ـــــ الأرمني، حيث تختلف الصورة قليلاً عن المناطق التي تنعم بهدوء سياسي. العونيون، يعترفون للطاشناق بتنظيمهم وإخلاصهم للتحالف، في حال «انفرط» عقد «التوافقات» في لحظة انتخابية طارئة، وفي المناطق التي تشهد معارك، كبصاليم وسن الفيل.
العملية أهدأ في الزلقا ـــــ عمارة شلهوب. الطاشناق موجود دائماً بقوة. هذه المرة إلى جانب مقهى «العرّاب»، القريب من مركز الاقتراع في المنطقة. السجع الموسيقي طبيعي في هذه الحالة. الطاشناق هو «عرّاب» التحالفات المستجدة في المتن، كما هو شائع على الأقل، كما يتباهى بعض مناصريه. مندوبو الطاشناق أقل تجوالاً في الزلقا. أعضاء ماكينته أشد تكتماً هناك، لا يحللون التحالفات، ولا يدلون بأية تصاريح سياسية. يعرفون أن هناك مرشحاً واحداً لحزبهم فقط. لا يعني ذلك أن تقاربهم مع البرتقاليين مبهم أو فاتر بسبب التوافق على لائحة واحدة. كأنهم حزب واحد، لا تميزهم إلا الألوان... واللغة. اللغة الأرمنية عامل إيجابي وفعّال في عمل ماكينة الطاشناق، وإن كان استعمالها بديهياً، وغير مقصود، فإنه يسهل عملها كثيراً. ليس بالإمكان التنصت على ماكينة حزب الطاشناق الانتخابية. الشباب، وهم أغلب أعضاء الماكينة، يتكلمون بصوتٍ مرتفع، من دون قلق. موقفهم الانتخابي واضح في الأساس، كما يذكر أحدهم، وتزيد لغتهم الخاصة هذه الثقة. يمكن الجزم بأن الصوت الأرمني محصورٌ بالطاشناق في الانتخابات البلدية. لا شيء إعلامياً يدلُّ على وجود حزب آخر. هكذا، وحتى في الأماكن المتنية التي فيها الأرمن، حيث تجري معارك (سياسية أو عائلية)، لا وجود لمرشحين من دون مباركة الطاشناق: الجميع تحت عباءة الحزب.
في موازاة هذا الارتياح النسبي، لا يبدو بعض أرمن برج حمود متحمسين للمعركة. صحيح أن مصادر حزب الطاشناق أشارت إلى أن نسبة تصويت الأرمن في المناطق التي سيتمثلون فيها قاربت 70% قبل إغلاق الصناديق بساعةٍ واحدة، إلا أن النتيجة الأهم حسمت قبل الانتخابات. إحدى مُناصرات الحزب، مثلاً، تشير إلى أن مرشح الحزب في أنطلياس، هايك أسكرجيان، غير معروف في أوساط «المجتمع الأرمني»، لأنه «لا يسكن في برج حمود». تستدرك سريعاً، لتشرح أن ذلك لا يعني اعتراضاً عليه، أو على ترشيحه، بل على العكس «فما دام من الطاشناق، فهو إذاً مرشح جيد». قصدت أن الأرمن خارج المعارك على الصعيد البلدي. هكذا تقرأ الواقع اليوم.
في المقابل، يقول متابع أرمني آخر، إن الطاشناق يمارس عمله السياسي الطبيعي، مكرساً حضوره في الوعي الجماعي الأرمني، حزباً طليعياً، إن لم يكن أوحد. وتالياً، فإن استثنينا الدور الوظيفي للتمثيل البلدي بالنسبة إلى الأحزاب السياسية، الذي يسعى إليه الطاشناق بوصفه أحد الأحزاب السياسية المحلية، فإن الطاشناق، وفقاً للمتابع، يجهد لتأكيد الحضور الأرمني في المتن تحديداً، بوصفه مكوّناً أساسياً في التركيبة اللبنانية، تحسباً للمعارك المقبلة. برأيه، إن كان الأرمن خارج المعارك الانتخابية البلدية حالياً، فليس بالضرورة أن يعني ذلك أنهم طرف ثانوي في المعادلة، بل بالعكس تماماً، ومن رأى ساحة الجديدة أمس، يفهم ذلك بلا شروح.