Strong>قتلة الفجر زاروا أسطول الحرية، فعاثوا فيه قتلاً واعتقالاً، غير عابئين بمجتمع دولي عاجز ولا برأي عام أعجز. دمعت عيون غزة وغضب العالم، فسارع «الحليف» الأميركي إلى نجدة ربيبته، وعينه على الأتراك الذين يخوضون معمودية دم لم تتضح معالم تداعياتها بعدهي الصدمة بكل معانيها وأبعادها. مذبحة الفجر التي يعجز العقل عن استيعابها، عن عقلنتها. جريمة عن سبق إصرار وترصّد تتجاوز حدود المعقول، في توقيتها ومكانها وسياقها وأهدافها واستهدافاتها وتداعياتها. إمكان الخطأ ومثله نظرية الفخ والملابسات غير المعروفة، كلها بهلوانيات خارج السياق، وخاصة أن الرواية لا تزال إسرائيلية المصدر. لا شاهد غير القتلة، ولا راوٍ غير المتحدثين باسمهم. فالضحايا نوعان، إما أسرى وإما شهداء، معظمهم أتراك الجنسية.
هي معمودية تركية إذاً. معمودية دم بات يفصل الأتراك عن الإسرائيليين، حلفاء الأمس وأعداء اليوم، على ما بيّنته الشعارات التي صدحت بها الحناجر في المدن التركية. تسريبات يوم أمس تشير بما لا يدعو للشك إلى أن مجرزة الفجر هذه ستكون مفصلاً في علاقة أنقرة بتل أبيب، سيحدّد رجب طيب أردوغان اليوم الأرضية التي ستقف عليها في المرحلة المقبلة.
وهي أيضاً دمعة لأطفال غزة وشيوخها مجبولة بالفخر والاعتزاز ومعهما الذل والخيبة. دمعة الشهداء الذين سقطوا في «أسطول الحرية»، والمساعدات التي لم تصل. والفخر والاعتزاز بالمتضامنين الذي ضحّوا بحياتهم نصرة لغزة. بالعثماني الجديد الذي رُفعت صوره في كل شارع ومنزل. وخيبة من «أشقاء» في اللغة والدين تنكّروا للدماء التي تجري في عروقهم، هذا إن بقيت في عروقهم دماء، فخامة الرئيس محمد حسني مبارك نموذجاً.
وهي كذلك العهر والفجور في أصدق تعابيرهما. القاتل يحمّل القتيل المسؤولية عن مقتله. حامل البندقية يلوم المدني الأعزل على جعله يطلق النار عليه. كأن الوسائل انعدمت لعرقلة السفينة من دون هذا الاستعراض المفرط في بربريته: قنابل غاز منوّم تشلّ الحركة على متن السفينة. تعطيلها بما يجبرها على التوقف وطلب النجدة.
واشنطن ترفض قراراً دولياً يدين إسرائيل أو يقرّ تحقيقاً لا تجريه بنفسها
علامات استفهام كثيرة لا تزال تحيط بما جرى: لماذا نُفّذ الهجوم في المياه الدولية ولم يُنتظر للقيام بذلك في المياه الإقليمية الإسرائيلية؟ وما العبرة في استهداف السفينة التركية في ظل توتّر للعلاقات مستمر منذ أواخر 2008 بذلت تل أبيب ما في وسعها للتخفيف من حدّته؟ وما هي الأسباب التي جعلت القيادة الإسرائيلية تختار هذه الطريق في ظل وجود بدائل أخرى أقل ضرراً؟
بل أكثر من ذلك. هل من داع لفرقة كوماندوس معروفة بنزعتها نحو القتل الفوري من أجل التعامل مع مدنيين عزّل، إلا من بعض الأدوات البدائية كالعصي والمقالع من أجل الدفاع عن النفس؟ أليس في إسرائيل بكل «عظمتها وتطوّرها» وحدات شرطة مدرّبة على التعامل مع حالات كهذه؟ أم هذا «الجيش الذي لا يقهر» بات عاجزاً عن عرض عضلاته إلا أمام نشطاء السلام؟
هي بلا شك حالة من الاستهتار المفرط بالمجتمع الدولي. استسهال الضغط على الزناد مع العلم المسبق بحتمية الإفلات من العقاب. ومن ذا الذي سيجرؤ على معاقبة إسرائيل والعم سام بقضّه وقضيضه يدعمها؟ ما حصل في مجلس الأمن الدولي يوم أمس أصدق دليل. جلسة طارئة دعا إليها لبنان وتركيا وفلسطين، بدعم من الجامعة العربية وحركة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي. تناوب المتحدثون على الكلام. إدانات وتبريرات. حجج وحجج مضادة. والنتيجة ماذا؟ عرقلة أميركية لصدور أي بيان يتضمن إدانة لإسرائيل أو مهلة زمنية لتحقيق في المذبحة ترفض إدارة باراك أوباما أن يجري بغير الأيدي الإسرائيلية، الأيدي نفسها التي أوقعت ما لا يقل عن 16 شهيداً وعشرات الجرحى. هذه الإدارة نفسها، التي لم تخرج بعد من إحراج بيان مؤتمر معاهدة حظر الانتشار الذي طالب إسرائيل بالاسم بالانضمام إليها، وجدت نفسها في وضع لا تُحسد عليه بين نيران من كل جانب.

مجلس الأمن

هذه خلاصة ما نقله مراسل «الأخبار» في نيويورك نزار عبود فجر أمس، موضحاً أن الولايات المتحدة وفرنسا مارستا سياسة النفس الطويل، مذكّرة (أميركا) بما فعلته إبان العدوان على غزة عندما عطّلت أيّ طلب لوقف النار، وكما فعلت في عدوان تموز على لبنان.
لبنان يهاجم القرصنة الإسرائيلية ويصطفّ إلى جانب المشروع التركي
المسوّدة الأولى للبيان الرئاسي الذي وضعته تركيا كانت تنصّ في الفقرة الأولى على أن «يدين مجلس الأمن الدولي بأقسى العبارات الهجوم الذي شنّته القوات الإسرائيلية اليوم على المدنيين في القافلة البحرية التي كانت تنقل مساعدات إنسانية إلى غزة، والذي أدى إلى فقدان أرواح ما لا يقل عن عشرة أشخاص وجرح العديدين». وعُدّلت بعد ساعات طويلة من المفاوضات لتصبح: «يعرب مجلس الأمن الدولي عن أسفه العميق لفقدان الأرواح خلال العملية الإسرائيلية اليوم في المياه الدولية بحق المدنيين في قافلة بحرية، ويعرب مجلس الأمن عن الأسف العميق لفقدان الأرواح وعن تعازيه لذوي الضحايا الذين قتلوا في المياه الدولية من البحر المتوسط. ويدين المجلس استخدام القوة الذي أدى إلى مقتل ما لا يقل عن عشرة أشخاص وجرح الكثيرين. ويطلب المجلس الإفراج الفوري عن السفن والمدنيين الذين تحتجزهم إسرائيل». وبدلاً من الفقرة التي كانت تقول: «ويضم المجلس صوته إلى الأمين العام للأمم المتحدة بضرورة إجراء تحقيق كامل في القضية. والهجوم يمثل خرقاً فاضحاً للقانون الدولي. وفي هذا الإطار يطلب من الأمين العام إجراء تحقيق دولي مستقل من قبل الأمم المتحدة لتحديد كيفية وقوع سفك الدماء وضمان محاسبة المسؤولين واتخاذ خطوات إضافية بما في ذلك التعويض»، أدخلت الفقرة الآتية :«أخذ مجلس الأمن الدولي علماً ببيان الأمين العام للأمم المتحدة المتعلق بالحاجة إلى إجراء تحقيق في القضية، ودعا إلى إجراء تحقيق مستقل وشفاف وذي صدقية خلال 30 يوماً، يكون متطابقاً والمعايير الدولية والقوانين الدولية والإنسانية».
ونصّت بقية الفقرات في المسوّدة الأخيرة على: «وشدد أعضاء المجلس على أن الوضع في غزة ليس مقبولاً ولا يسمح له بأن يدوم. وشدّدوا أيضاً على ضرورة التطبيق التام لقرارَي مجلس الأمن الدولي 1850 و1860. وأعربوا في هذا الصعدد عن قلقهم البالغ من الوضع الإنساني في غزة، وشددوا على الحاجة إلى التدفق المنتظم والدائم للمواد ولعبور سكان غزة، فضلاً عن التأمين دون إعاقة والتوزيع للمساعدات الإنسانية على امتداد الأراضي. كذلك شدد أعضاء المجلس على أن الحل الممكن للنزاع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني في اتفاق متفاوض عليه بين الطرفين، وأعاوا التأكيد أن حلّ الدولتين وحده، بوجود دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة تعيش إلى جانب إسرائيل بسلام وأمن ومع جاراتها، يمكن أن يجلب السلام للمنطقة. وأعرب أعضاء المجلس عن قلقهم من أن هذا الهجوم وقع عندما كانت المباحثات غير المباشرة تجري، وحثّوا الأطراف على التصرّف بضبط النفس وتفادي أي إجراءات منفردة وأي أعمال استفزازية».
وكان وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو قد دعا إلى محاسبة إسرائيل وتوجيه إنذار إليها وتعويض المصابين والإفراج عن الموقوفين والسماح للسفن بمتابعة رحلتها ورفع الحصار الفوري عن غزة.
وألقى كلمة انتقد فيها بشدّة إسرائيل التي وصفها بأنها «دولة خارجة على القانون وتمارس القرصنة وأعمال العصابات ضاربة عرض الحائط بكل الشرائع الدولية والإنسانية والدينية القائمة منذ مئات السنين»، فضلاً عن أنها «فقدت شرعيتها كدولة ضمن المجتمع الدولي».
بدوره، وصف مندوب لبنان، نواف سلام، العمل الإسرائيلي بالقرصنة، وأدان العمل، وطالب بإدانة الفاعلين ومحاسبتهم. وأعرب عن دعمه لمشروع البيان التركي.