معركة حقيقيّة خيضت في مدينة صيدا أمس، لم يكتف المتنافسون خلالها باستخدام صناديق الاقتراع. فخارج الأقلام، كانت السكاكين والعصيّ أدوات المعركة. سقط جرحى، وأوقف الجيش العشرات، قاطعاً أوصال المدينة بحضوره الكثيف، الذي مكّن صيدا وأهلها من النجاة
خالد الغربي
الجيش «كله» كان في مدينة صيدا أمس. فالمعركة اتخذت طابعاً قد يكون الأقسى منذ بدء الانتخابات البلدية. لم ينجُ أي مركز اقتراع من خلاف أو إشكال وصل في بعض الأحيان إلى حد تبادل الطعن بالسكاكين.
«الفتنة» التي خيّم ظلها على المدينة طوال يوم أمس، استعيض عنها بـ«كرّ وفرّ» من الإشكالات بين مناصري التنظيم الشعبي الناصري ومناصري تيار «المستقبل». و«الشعبي» كان يدعم لائحة الارادة الشعبية، برئاسة عبد الرحمن الأنصاري، في مقابل لائحة «الوفاق للانماء»، برئاسة محمد السعودي، التي دعمها تيار «المستقبل» و«الجماعة الإسلامية»، علماً بأنها كانت تضم مقربين من رئيس المجلس البلدي الحالي عبد الرحمن البزري. في خلاصة الأمر، كان تيار أسامة سعد يقف وحيداً في المعركة. حلفاؤه الأقربون في حزب الله هم الوحيدون الذين لم يقفوا ضده، إلا أنهم لم يخرجوا لدعمه علناً، ربما لسحب ورقة التحريض من أيدي خصومه، رغم أن تصويت مناصري الحزب بدا واضحاً أنه يتجه لمصلحة اللائحة التي يدعمها، من دون أن تصل نسبة التصويت إلى ما كانت قد بلغته في الانتخابات النيابية عام 2009.
الاحتقان بين مناصري «المستقبل» و«الشعبي الناصري»، الذي سيطر على المدينة طوال الأسبوع الماضي، كان قد وصل امس الى ذروته، ليظهر على شكل اشتباكات بالأيدي والعصي والسكاكين، ما أدى سقوط جرحى. وقد أوقفت القوى الأمنية العديد من الشبان. لكن قطوع الاستحقاق الانتخابي البلدي في صيدا مر بأقل الخسائر، ولم تتوقف العملية الانتخابية، إذ تواصلت حتى تعدّت نسبة الاقتراع الخمسين في المئة.
يوم الاشكالات الكثيرة والمتنقلة من مركز اقتراع الى آخر ومن حي إلى حي، طغت على اليوم الانتخابي، ولم يعد الهمّ يرتكز على نسب المشاركة في الاقتراع أو عدد المصوّتين، وخاصة بعدما فاقت نسبة الاقتراع الـ35 في المئة بعد الظهر، بقدر ما كان الأمر متعلقاً بإحصاء الاشكالات أو بعدد الجرحى نتيجة التضارب بين أنصار الفريقين، أو الرقم الحقيقي للاعتقالات التي نفذها الجيش.
والجيش كان قد نفذ أكبر انتشار له في المدينة، ربما منذ دخوله المدينة في بداية تسعينيات القرن الماضي. وفي كل الإشكالات، ضرب الجيش بحزم، موقفاً كل من وجده في المكان. أحد كبار ضباط الجيش كان يردّد أمام مرؤوسيه: «لن نترك صيدا. فهنا بدأت الحرب الأهلية. والمدينة تقع على كتف مخيّم عين الحلوة. لذلك يجب أن يمر اليوم الانتخابي بأقل خسائر ممكنة». ومنذ الصباح، حضر مساعد مدير استخبارات الجيش، العميد عباس إبراهيم، إلى المدينة، وعقد سلسلة اجتماعات وأجرى اتصالات بمختلف الأطراف السياسية، من أجل لجم التصعيد. ولحظة بعد اخرى، كانت تعزيزات إضافية تستقدم إلى المدينة، حتى تحولت إلى ما يشبه تجمعاً كبيراً للعسكريين وآلياتهم.
وفضلاً عن الاتصالات الأمنية، كان مفتي صيدا، الشيخ سليم سوسان، يتولى الاتصال بالفاعلين في الطرفين، من أجل تجنيب المدينة اشتباكاً كان سيترك آثاره عميقاً في نسيج المدينة.
وعدا عن الإشكالات، فإن ما طبع اليوم الانتخابي في المدينة هو الوجه السياسي الذي جعل وجهي المعركة هما أسامة سعد وأحمد الحريري، لا رئيسي اللائحتين محمد السعودي وعبد الرحمن الأنصاري.
وكان أكبر الاشكالات التي وقعت هو الإشكال الذي حصل في مركز اقتراع حي مكسر العبد، اذ حاصرت القوى الامنية موكب النائب السابق أسامة سعد بعدما اتخذت استحكامات قتالية تجاهه وملقمة السلاح، فيما توجه أحد ضباط الامن الى أنصار سعد المطوّقين في المكان بالقول: «قلنا لكم لا تستفزوا الجيش». وكان سعد قد حضر إلى المركز برفقة عدد من مناصريه وبحضور صحافيين، بعدما أبلغ عن إقفال قوى الامن الداخلي أبواب جامعة aust حيث قلم اقتراع حي مكسر العبد. وتبيّن أن الإقفال كان قد حصل قبل نصف ساعة من حضوره، على خلفية اقتراع سيدة للاختياري وقد نسيت الإدلاء بصوتها البلدي، فعادت مجدداً وقد سهّل لها أحد الأمنيين الاقتراع مجدداً، الأمر الذي رفضه مندوب ماكينة لائحة الإرادة الشعبية، فحصل تلاسن وأقفِل باب المركز.
بدأ اليوم الانتخابي باكراً. فبعيد افتتاح صناديق الاقتراع في 17 مركز اقتراع، بدأ الناخبون بالتوجه الى مراكز الاقتراع، وقد بدا التفوق العددي لأفراد ماكينة لائحة «الوفاق للإنماء» الذين ارتدوا قصاناً بيضاء على حساب ماكينة لائحة «الإرادة الشعبية» (ارتدوا قمصاناً حمراء).
«اليوم أتينا لنكسب»، قالت فاتن السيد، إحدى مناصرات النائب السابق أسامة سعد مردفة: «مهما حاولوا اقتلاعنا من صيدا فنحن مغروسون في تربة المدينة».
محمد السعودي وصل باكراً الى مركز الاقتراع في الحي الوسطاني. وعلى الرغم من طلاته الإعلامية خلال الشهر الماضي، إلا أن شابتين من ماكينته الانتخابية لم تأبها لوصوله. فهما لم تتعرفا عليه بعد، ولم تفعلا إلى أن لفت نظرهما أحد مسؤولي تيار «المستقبل» قائلاً: «شو ما بدكن تسلموا على الاستاذ محمد».
مناصرو «التنظيم الشعبي» مارسوا «فدائية» في إقناع المقترعين من خارج جمهورهم «يا حجة فكري منيح وانتخبي لائحتنا حتى لا تندمي بعدين». لم يتوهم هؤلاء المناصرون أن اللائحة التي يدعمونها ستفوز، لكنهم كانوا يسعون الى محاولة حشد أصوات لها تقلل من الفوارق الشاسعة بين اللائحتين، ولا سيما مع استقدام تيار المستقبل آلاف المغتربين من دول متعددة للتصويت للائحة التي يدعمونها. «الواقع يملي علينا أن نعترف بالنتائج قبل صدورها»، يقول أحد المهندسين في تيار النائب السابق أسامة سعد، «لكننا نخوض معركتنا لتثبيت الحضور القوي لتيارنا».
مريم القبرصلي التي تناصر تيار «المستقبل»، قالت إنها صوّتت للائحة الوفاق للإنماء «زي ما هيي»، مؤكدة أنها مطمئنة إلى فوز اللائحة التي تدعمها بفارق كبير جداً عن لائحة أسامة سعد. وبدا واضحاً خلال النهار أن عمليات التشطيب كانت محدودة، وكذلك اللوائح الملغومة التي لم تنتشر على نطاق واسع.
سعد، الذي أدلى بصوته في مهنية صيدا، قال إن «فريق الحريري لم يعد يستحي. هذا الفريق أفسد البلد، وعلينا التصدي له. فنحن لا نريد أصواتاً تفوح منها رائحة الفساد». وقال سعد: «نحن حتى هذه اللحظة خضنا معركة شريفة بإرادة الناس الأوفياء والشرفاء والأحرار. ونحن نعتبر أننا سنسجل نقاطاً عديدة في مواجهة هذا الفريق، ويكفي أننا فضحناه أمام اللبنانيين وأمام العالم بأنه فريق مرتكب، خرب البلد وعلينا أن نواجهه. ونحن نسلم لما قد يحصل في صناديق الاقتراع، وسنبقى مستمرين في هذه المواجهة. فالانتخابات هي محطة من محطاتنا النضالية، سبقتها محطات وستليها محطات أخرى».
وفي موقف لافت له خلال النهار الانتخابي، خاطب المرشح محمد السعودي الصيداويين شاكراً «المملكة (العربية السعودية) التي فتحت أبوابها وشركاتها لأجلكم، وفتحت سوق العمل لأبناء صيدا واللبنانيين جميعاً».
بعد إقفال صناديق الاقتراع، كانت المدينة تتجه شيئاً فشيئاً نحو الهدوء وخلو طرقاتها من المارة. وفي الوقت عينه، كانت تعزيزات الجيش لا تزال تصل إلى المدينة. أما مناصرو الطرفين فتوجهوا كل إلى مركز الماكينة الانتخابية لتياره، سواء في مركز معروف سعد الثقافي أو في منزل شفيق الحريري.
وخاطب النائب السابق أسامة سعد مناصريه، بعد ساعات على إقفال صناديق الاقتراع، مقراً بخسارة المعركة الانتخابية. لكنه في الوقت عينه، أكد أن تياره لم ينسحب من المعركة بعد فشل التوافق، لأن «التنظيم الشعبي ليس هو الذي ينسحب من أرض المعركة ومن المواجهة ولسنا نحن من يفرّط بخياراتنا». وأكد أن تياره «سينتظرهم عند كل استحقاق وطني، وكل استحقاق سياسي وكل استحقاق مطلبي».