قبل سنوات، وُعد الأسرى بلجنة رسمية ترعى شؤونهم، برئاسة مباشرة من وزارة الشؤون الاجتماعية. مرت السنوات، فتغيّر الوعد. «وُفّيت» اللجنة قبل أن تباشر مهماتها، وضاع المسؤول عن متابعة أوضاعهم
راجانا حمية
قبل 8 سنوات، وقّعت وزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمة العمل الدولية، ممثّلة بالمكتب الإقليمي للدول العربية ــــ بيروت، مذكّرة تفاهم، نص فيها الطرفان ضرورة تأليف «لجنة لتنسيق الجهود في مجال متابعة أوضاع الأسرى المحررين من السجون الإسرائيليّة». بعد عام فقط، أصدرت وزارة الشؤون القرار الرقم 18/1 يقضي بتأليف «لجنة التنسيق لدعم الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للأسرى المحررين من السجون الإسرائيليّة». ومن جملة مهماتها «تنسيق الاستجابة الوطنية حيال موضوع الأسرى المحررين ووضع البرامج الهادفة وتنفيذها لتحسين أوضاعهم وضمان التعاون ما بين الجهات الحكومية والأهلية لتأمين حاجة هؤلاء، إضافة إلى تشجيع الحوار بين الأسرى وصولاً إلى توحيد مرجعيتهم». إلى كل هذا، تبرعت منظمة العمل بـ34 ألف دولار للجنة، و10 آلاف دولار من وزارة الشؤون، وأودع المبلغ في أحد المصارف، حيث لا يزال حتى اللحظة.
تألّفت اللجنة. سار كلّ شيء على ما يرام... حتى الاجتماع الأول لها الذي كان من المفترض أن تُبحث فيه خطوات تطبيق المهمات. انتهى بمحضر «توتر» حسب ما قال لـ«الأخبار» رئيس اللجنة المتقاعد حسين ماجد. لكن النية باستكمال الحوار كانت لا تزال موجودة. عُقدت اجتماعات عدة، ولكنها لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، إلى أن بدأ عقد اللجنة يفرط شيئاً فشيئاً، فكانت حصيلة النقاشات انسحاب أحد الأعضاء بحجة أن التمثيل في اللجنة يفترض أن يكون بصفة شخصية، وهو ما لم يجده صائباً كممثّل لجمعية تعنى بشؤون الأسرى.
بعد سنتين من «تفرطع» اللجنة، تقاعد رئيسها حسين ماجد. هكذا، ارتأت الوزارة «أن اللجنة انتهت». والسبب؟ يجيب مصدر في الوزارة، أنه «عندما تفرط إحدى اللجان، يعني هذا أن العمل غير ناجح، لشو يكمّل؟». اكتفت الوزارة بـ«إعدام» اللجنة شفوياً، من دون إصدار قرار بإلغائها. ما يعني، أن اللجنة لا تزال موجودة حتى الآن، وأموالها أيضاً، لكن من دون متابعة أو نيّة في عودتها، برغم أنها المحاولة الوحيدة لإيجاد مرجعية رسمية موحّدة في هذا المجال. هذا على الأقل ما أعلنته الوزارة، ملقية اللوم على الأسرى «غير المبالين» حسب مصدر في الوزارة رفض البوح باسمه، فيما هؤلاء والجمعيات التي تُعنى بمتابعتهم لم يجدوا للجنة أهدافاً واضحة أو حتى جدية بمتابعة أوضاعهم. هكذا، لم يعد أمام الأسرى المحررين سوى الاستعانة بما تقدّمه الجمعيات وفق شروطها، في ظلّ غياب تام لرعاية الدولة.
لكن، هل هناك أسباب أخرى لانفراط عقد اللجنة؟ وعلى من تقع مسؤولية متابعة أوضاع 9 آلاف أسير؟ وهل من الصائب أن تكون الجمعيات وحدها مسؤولة عن متابعة هؤلاء المواطنين؟
اكتفت الوزارة بـ«إعدام» اللجنة شفوياً، دون إصدار قرار بإلغائها
في جعبة كل ممثل في اللجنة وفي الوزارة أيضاً مجموعة أسباب لتعطل عملها: وزير الشؤون الاجتماعية الراحل أسعد دياب (وهو عراب اللجنة في ذلك الوقت). رئيس اللجنة المتقاعد حسين ماجد. العضو المنسحب محمد صفا ومصدر متابع في الوزارة. لم يكن ثمة شيء مشترك بين معظم من أدلوا بآرائهم سوى أن ملف الأسرى لم يحظ بعد بالإجماع الكافي على أنه ملف وطني، أو على الأقل إنساني. وما عدا ذلك، لن يجتمع الأطراف على سبب محدد. فرئيس اللجنة يلقي اللوم على طرفين، وإن كان بدرجات متفاوتة: الأسرى والوزارة. لم يجد ماجد ما يبرّر الإكمال بعمل اللجنة في ظل «انعدام الحماسة لدى ممثلي الأسرى فيها، إذ لم يكن ثمة انسجام بينهم، وكل واحد منهم جاء متأبطاً انتماءاته السياسيّة والجزبية». يؤمن ماجد بأن اللجنة لن تعود، فالوزارة لم تكن «تريد مجلس جنوب ثانٍ للشيعة في الوزارة». وهو ما توحي به بعض الشيء إجابة الوزير الراحل دياب لـ«الأخبار»، الذي أعطانا، برغم اشتداد المرض عليه في آخر أيامه، مقابلة علّق فيها على تعطيل اللجنة بقوله «إذا ميلك مش على هوا القضية، بتكبها». دياب الذي كان قد اتهمه الوزير السابق ماريو عون، بأنه «ألّف اللجنة لاعتبارات سياسية»، لم يجد رداً على هذا الاتهام سوى القول «تبني المقاومة ودعم قضية الأسرى ليست تهمة، بل واجب ليس فيه حياء». مضيفاً أن «كل ملف يتعلق بشؤون الناس هو من صلاحيات الوزارة ومتابعة شؤون الأسرى من ضمن هذه الصلاحيات». الأمر الذي يؤكده ماجد بإشارته إلى القانون 212 الذي ينص من بين مهماته على «تقديم الرعاية الاجتماعية لأسر شهداء الاعتداءات الإسرائيليّة والمعتقلين في سجون العدو، إضافة إلى معالجة النتائج الاجتماعية للحرب».
لكن، بغض النظر عن اللجنة وأسباب تعطيلها واحتمال عودتها، ما الذي تقوم به الوزارة من بين واجباتها القانونية؟ ما يرد به المصدر الموظف في الوزارة، هو باختصار ما لم يكن يتوقعه الأسرى من وزارتهم. فقد اختصر المصدر، قائلاً: «هودي (الأسرى) جماعة تعبانين ما بدهم يتعلموا، بدهم مصاري بس ويقعدوا ببيوتهم»! ويشرح «من مهمات اللجنة كان إقامة دورات تدريبية، فعملنا دورة تصليح سيارات لم يأت أحد منهم، وأخرى للكومبيوتر واللغات، ولم يأت أحد منهم». لكن، ألم تسأل الوزارة نفسها لماذا لم يرد الأسرى دورات تدريبية؟ وما الذي يريده هؤلاء؟ مجرد لجنة أم رعاية؟ هنا، يشير صفا إلى أن اعتراض الأسرى «ليس على اللجنة بحد ذاتها، ولكن على غياب مشروع حقيقي لرعايتهم». لا أثر لدعم الدولة. هذا ما يقوله صفا «المستعد لتقديم قائمة بالأسماء». لكن، هل تريد الوزارة هذه القائمة، وهي تقول إنه «مفروض على الجمعيات المهتمة بقضايا الأسرى متابعتهم كونها تعرف أوضاعهم». أما الوزارة؟ فـ«تدعم بالمال. بالتأهيل. بالدورات التدريبية». لا شيء أكثر، فبرأي المصدر «الأسرى ليسوا حالة خاصّة تفرض الاهتمام بهم على نحو مغاير للآخرين، وإذا كان لا بد من الاهتمام بهم، فماذا عن المفقودين إذاً؟ والمسنين؟ والمحرومين من الضمان الصحي؟».
ثمة ما هو أكثر: الوزارة لم تعد معنية حتى بمتابعة شؤون رعايتهم، «فقد انتقل الملف إلى وزارة المالية منذ صدور القانون 364». هذا ما تقوله الوزارة اليوم. لكن، حتى لو افترض الأسرى أنهم أصبحوا من مهمات وزارة المالية، هل تُعنى المالية برعايتهم صحياً واجتماعياً؟ هنا، عودة إلى الـ364، الذي يفترض منح التعويضات والمعاشات التقاعدية للأسرى بحسب سنوات إقامتهم في المعتقل. ومن جملة ما نص عليه أن «الأسير الذي قضى في المعتقل 3 سنوات وما فوق يمنح معاشاً تقاعدياً». لكن، ماذا عمن قضى 3 سنوات إلا عشرة أيام؟ لا معاش ولا رعاية، فقط تعويض لمرة واحدة. فلنعط مثالاً على من قضى 3 سنوات إلا عشرة أيام، فقد وصل الحال بهذا الرجل إلى الطلب من المالية أن يسجنوه 10 أيام، كي يحظى بمعاش تقاعدي لأطفاله الخمسة، وهو المعوق العاجز عن إعالتهم.
هكذا، تنهي الشؤون التزاماتها تجاه الأسرى، بحجة القانون 364. وهكذا أيضاً، تُصفّى القضيّة.
دراسة أوضاع لم تنفذ
قبل أن تنهي وزارة الشؤون التزاماتها تجاه الأسرى، كانت الوزارة قد أعدت، بالتعاون مع مؤسسة الصادق للدراسات والإنماء، دراسة عن أوضاع المعتقلين والأسرى المحررين وأسرهم واحتياجاتهم. كان ذلك في عام 2001، وقد تقدم في حينها 5232 من الأسرى وذوي المعتقلين. حينها، أوردت الوزارة جملة مقترحات، يبدو أن مرور السنوات تكفل بمحوها. ومنها «ضرورة الاهتمام ورعاية 1540 شخصاً مع أسرهم من خلال الاستفادة من البرامج المقترح تنفيذها». كما اقترحت الدراسة تأسيس اللجنة الوطنية لرعاية شؤون الأسرى المحررين. فما الذي تحقق من هذا كله؟ لا شيء، سوى أن القضية انتهت.


علي توبة: أصغر أسير في الخيام كبر قبل أوانه

آمال خليل
في شارع المصارف العريض في مدينة النبطية، لا يلتفت معظم الناس إلى الشاب الجالس عند باب أحد المصارف، إذ لا يستدعي في ملامحه الطفولية وجسده النحيل، شيئاً استثنائياً يقف المرء عنده سوى أنه يعمل حارس أمن في شركة خاصة. فما لا يعرفونه هو أن هذا الشاب هو علي توبة.
يحاول علي أن يلملم خيبته من أن الناس نسوا أنه كان في المعتقل، فقد «نسيه هؤلاء مثلما تناسى البعض أن الجنوب كان محتلاً لـ22 عاماً»، يواسي نفسه. إلا أن الدنيا قد ضجّت بعلي، أصغر معتقل دخل الى معتقل الخيام، في سن الرابعة عشرة من عمره، إذ احتجز مع والده مصطفى لعامين، بين تشرين الأول من عام 1997 حتى تشرين الثاني 1999، فيما احتجزت والدته زينب ناصر لشهر واحد اثر اعتقاله بأيام. الكل تجنّد للتضامن مع العائلة الأسيرة وطفلها البكر والمطالبة بإطلاق سراحهم ومن بينهم الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك. وقد أفردت حملة عالمية خاصة به للتضامن معه قادتها «لجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين»، باتجاه مؤسسات الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية. وتصدّرت صورة الفتى ذي الشعر الأشقر والملامح الناعمة، وسائل الإعلام وتحولت إلى ملصقات وزّعت في العالم.
أما وقد انطفأ الوهج اثر انتهاء مراسم الاحتفالات بخروجه واستقبالات المسؤولين له، فقد واجه علي وحيداً، بعدما أطفئت الكاميرات وانفضّ الناس من حوله، مصيراً آخر لم يحسب حسابه. فقد امتنع الفتى عن العودة إلى متابعة دراسته بعد انقطاع دام لعامين. يقول إن المعتقل «أقفل دماغه»، فلم يعد قادراً على الاندماج مجدّداً في جو المدرسة. رفضُه حصر نفسه في مكان واحد، جعله يرفض عرض «لجنة المعتقلين» لتسجيله في معهد فني. في خلد الفتى، استعرت الآمال بأنه سيحظى بوظيفة رسمية وبضمان اجتماعي وصحي تقديراً لتجربته، استناداً إلى الوعد الذي قطعه له رئيس الجمهورية السابق إميل لحود بعد 3 أيام من تحريره، بإدماجه في الجيش اللبناني.
بقي علي عاطلاً من العمل سوى انتظار «عمل» الدولة، ولجأ الى الإعلام لتذكير الرئيس بوعده الذي أُعقب بوعد آخر من أحد مساعديه لا يزال بانتظاره حتى اليوم. منذ ذلك الحين، شمّر علي عن ساعديه وتحول الى أجير يومي في الزراعة والخدمات والنقل... براتب لم يزد على 500 ألف ليرة من دون ضمان.
يهم علي أن يحظى بفرصة هجرة دائمة يؤمن فيها لطفليه حياة أفضل مع أنه سيحمل معه أينما ذهب، الأشغال اليدوية التي صنعها في المعتقل ومئات الرسائل التضامنية التي تلقّاها من أنحاء العالم خلال اعتقاله يورثها لأطفاله. كما يهمه ألا تعود إسرائيل لاحتلال الجنوب واعتقال أهله، لكنه لا يعطي علامة تقدير لسنوات التحرير العشر أكثر من واحد على عشرة.