لا يمكن المرء أن يجزم بما إذا كان الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله قد يطلق نظرية جديدة في فهم حدود القدرة القومية لإسرائيل حين شبّه وهنها ببيت العنكبوت، إلا أن المؤكد أنه عندما فعل ذلك لم يكن يتصوّر أن عبارته الشهيرة ستدخل عميقاً في الوعي الإسرائيلي وتتخذ فيه طابع العقدة التي تحرض على سلوكٍ يهدف إلى إثبات نقيضها
محمد بدير
«خطاب التحرير» هو الاسم المعتمد للكلمة التي ألقاها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في بنت جبيل، بعيد استكمال جيش الاحتلال انسحابه في السادس والعشرين من أيار 2000. إلا أن القليل من اللبنانيين والعرب يدركون أن التسمية التي تطلقها الأدبيات الإسرائيلية على هذه الكلمة هي «خطاب بيت العنكبوت». في هذه الأدبيات، من المعلوم أن ثمة نزعة لاختصار توصيف ظاهرة ما عبر انتخاب أبرز ما فيها وربط اسمها به. لذلك، يمكن القول إن العبارة الأكثر وقعاً على الأذن (والنفس) الإسرائيلية في الخطاب الشهير للسيد نصر الله لم تكن شيئاً آخر غير تلك التي صدح فيها بأن «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت». الأرجح أن قائد المقاومة لم يكن آنذاك متقصداً التصويب على ما تبين لاحقاً أنه نقطة المركز في دائرة التحسس الإسرائيلي، وهو قال ما قاله ضمن سياقٍ كان يستنهض فيه العرب والمسلمين بعيداً عن مخاطبة القيادة والجمهور الإسرائيليين. بيد أن ما بدا أنه «لمعة» (ارتجالية على الأظهر) من اللمعات الخطابية المعهودة للسيد نصر الله تحول لدى المتلقي الإسرائيلي إلى صاعقة شعر بأنها أصابت منه مقتلاً كان يعتقد أنه بمنأى عن سهام الاستهداف. العبارة العابرة في خطاب السيد نصر الله تحولت سريعاً إلى «معلّقة» تلقفها أهل الاختصاص في الصحافة والأكاديمية الإسرائيليتين وواكبهما في ذلك أصحاب الشأن من الساسة والعسكر ليخلصوا بعد إشباعها تحليلاً وتأويلاً إلى تقديمها في قالبٍ منهجي أطلقوا عليه اسم «نظرية بيت العنكبوت». وفي القاموس الإسرائيلي، يمكن العثور على محاولات لا بأس بها لتعريف هذه النظرية، لعل أكثرها تلخيصاً تلك التي جاءت على لسان قائد أركان الجيش الأسبق، ووزير الشؤون الاستراتيجية الحالي، موشيه يعالون، حين سئل عما تعنيه هذه النظرية في مقابلة مع صحيفة هآرتس بتاريخ 28/2/2002. لخّص يعالون النظرية بالقول إنها «تعني أن إسرائيل دولة قوية عسكرياً، لكن مجتمعها المدني هو مجتمع رفاهية مدلل غير مستعد للقتال. ففي مقابل قوة الجيش الإسرائيلي وتفوقه التكنولوجي والاستراتيجي، لا يبدي الجمهور الإسرائيلي استعداداً للتضحية بحياة أبنائه من أجل الدفاع عن مصالحه القومية وأهدافه الوطنية. لذلك، فإن إسرائيل مثل بيت العنكبوت، تبدو قوية من الخارج، لكن عندما تلمسها تتفكك». بعبارة أخرى، تتمحور نظرية بيت العنكبوت حول تدني منسوب قدرة الجبهة الداخلية الإسرائيلية على الصمود وتحمّل وضعية الاستنزاف الدموي والمعنوي بوتيرة مستديمة في فترات المواجهة المسلحة. ويمكن القول إن الجبهة الداخلية هنا تجسد نقطة الارتكاز في مثلث «الحكومة، الجيش، الشعب» الذي تحدث عنه المنظّر العسكري الشهير كارل فون كلاوزبيتش. فعندما يفشل الجيش في تحقيق النتائج التي تكلفه بها الحكومة، وتفشل الأخيرة في توفير الحماية وأشكال الدعم التي يتوقعها منها الشعب، يدخل الشعب مع الحكومة في حالة اشتباك تؤدي إلى تراجع مستوى الثقة لدى الرأي العام بفاعلية الفريق السياسي الحاكم الذي يتحول إلى إدارة الحرب وسط ضغوط المطالبة بإنهائها سريعاً تحت طائلة المغامرة بمستقبله السياسي.
الحروب العصرية هي حروب على الرموز، وبنت جبيل هي رمز، حيث ألقى نصر الله خطاب بيت العنكبوت
من المرجح أن تكون المقاومة في لبنان قد اعتمدت هذه الاستراتيجية بالضبط في مواجهتها الاحتلال الإسرائيلي على امتداد أعوام نشاطها من دون أن تعي أنها تطبق من خلال ذلك ما سيُصطلح عليه لاحقاً بنظرية بيت العنكبوت. ومن المرجح أيضا أن تكون إسرائيل (قيادة سياسية وعسكرية وأوساطاً شعبية) تدرك نقطة الضعف الذاتية التي دأبت المقاومة على التصويب عليها. بيد أن أياً منهما لم يكن يستشرف أن أيار عام 2000 سيتحول إلى موعد تتكثف فيه المعطيات المتراكمة لتنفجر تحولاً نوعياً على شاكلة الانتصار الذي تحقق وقدم مصداقاً حياً لصحة وصلاحية الأطروحة التي انطوت في عبارة «بيت العنكبوت» التي أطلقها السيد نصر الله.
فجأة، وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة مباشرة مع استحقاقٍ ذي أبعاد وجودية. فما عَنَتْه نظرية بيت العنكبوت في الجوهر هو النقيض لنظرية «كيّ الوعي» التي دفعت إسرائيل لقاء تكريسها وتثبيتها ثلاث حروب متتالية في أعوام 1967 و1973 و1982. وتتلخص نظرية كيّ الوعي (التي للمفارقة يُعَدّ يعالون من أبرز مُروِّجيها أيضاً) بمقولة أن إسرائيل نجحت في دفع أعدائها إلى الاعتقاد باليأس من إمكان هزيمتها بوسائل عسكرية، الأمر الذي جعل من التسوية السياسية خياراً وحيداً بالنسبة إليهم في مقاربة حل قضية الاحتلال التي تمثلها. في قبالة هذه «الحقيقة» (حقيقة وجود إسرائيل وتفوقها وجبروتها) التي لا تحتمل النقاش، جاءت أطروحة بيت العنكبوت لتقول إن في الإمكان هزيمة إسرائيل، وإن المدخل إلى ذلك هو التصويب على مناعتها الاجتماعية الهشّة التي تمثل الحلقة الأضعف في سلسلة الأمن القومي الإسرائيلي.
وبما أن إسرائيل، وفقاً لما جاء في مقدمة تقرير فينوغراد، «لن تستطيع البقاء في هذه المنطقة من دون أن تعتقد هي نفسها، فضلاً عن محيطها، بأن جيشها قادر على الانتصار (في أية مواجهة)، وأنها تمتلك قدرات عسكرية ومناعة اجتماعية تسمح لها بردع أعدائها وإلحاق الهزيمة بهم»، بما أنها كذلك، كان لا بد لها من المسارعة إلى إعادة الاعتبار إلى نظرية «كيّ الوعي» من بوابة إسقاط النظرية النقيضة، نظرية «بيت العنكبوت».
خاضت إسرائيل 3 حروب في 1967 و1973 و1982 لتثبيت نظرية «كيّ الوعي»
وفي الحقيقة، يمكن متتبع السلوك الإسرائيلي في الأعوام الماضية أن يقف بسهولة على جدلية هذا الصراع الإسرائيلي الذي وصل بحسب تعبير أحد المعلقين الإسرائيليين إلى حد الهوس في نفي صفة بيت العنكوب عن إسرائيل. هذا الهوس ـــــ العقدة فقط هو الذي يفسر مثلاً الإصرار على احتلال مدينة بنت جبيل خلال عدوان تموز 2006، رغم فشل المحاولة ثلاث مرات متتالية (23 تموز، 26 تموز، 6 آب) وتكبد صفوف القوات المهاجمة خسائر بشرية فادحة. وهذا الهوس ـــــ العقدة هو وحده الذي يفسر إطلاق اسم «بيت (خيوط) الفولاذ» على العمليات العسكرية التي كان هدفها احتلال المدينة. وقد صرّح قائد أركان الجيش الإسرائيلي في حينه، دان حالوتس، بالاعتبارات التي تكمن وراء هذا الإصرار على إسقاط بنت جبيل. فمن غرفة القيادة التي أصدر منها أمر احتلال المدينة شرح حالوتس فلسفته العسكرية للضباط المحيطين به، قائلاً (بحسب ما تنقل عنه إحدى وثائق الحرب الصادرة في إسرائيل): «الحروب العصرية هي حروب على الرموز، وبنت جبيل هي رمز. في بنت جبيل ألقى نصر الله خطاب بيت العنكبوت، ووظيفتنا الآن أن نظهر لهم أننا نضربهم في هذا المكان». كانت الخطة تقضي بإحضار رئيس الحكومة إيهود أولمرت، أو وزير الدفاع عامير بيريتس، إلى النقطة التي ألقى فيها السيد نصر الله خطابه ليلقيا خطاب النصر فيها. ولما تعذر ذلك (في ضوء بطولات المقاومة) عُدِّلت الخطة بأن يُكتفى بتنظيم استعراض عسكري لرتل من الدبابات في شارع المدينة الرئيسي وأن يقوم قائد أحد الألوية بإلقاء خطاب أعدته وحدة الناطق العسكري في مركز صف الهوا بالمدينة. الخطاب (الذي لم يُلقَ نتيجة الفشل الميداني للخطة) كان يُفترض به أن «يفند» مقولة «بيت العنكبوت» من خلال التشديد على قوة إسرائيل ومناعة مجتمعها. لقد كان «خطاب بيت العنكبوت» محفوراً في الوعي الإسرائيلي بالمستوى الذي دفع قيادة الجيش إلى الجنون ـــــ على حد تعبير أحد المعلقين ـــــ «وكان الجنرالات متحمسين لمحو هذه المذلة. وقد كانت عقدة بيت العنكبوت في الجيش عميقة، إلى درجة أن الرسوم الكاريكاتورية التي نثرتها طائراته فوق جنوب لبنان (خلال الحرب) أظهرت أن نصر الله يحاول مصارعة خيوط العنكبوت فيكتشف أنه أمام سور منيع».
فشل عدوان 2006 راكم العقدة والهوس الإسرائيليين، إلى أن وجدت قيادة الجيش الفرصة للتنفيس عن هذا الاحتقان في عدوان غزة 2008، إذ بلغت الوحشية التي مارستها الآلة العسكرية للاحتلال حداً تجاوز بأشواط الاعتبارات الميدانية، لأن هدفها الأوحد كان «كيّ وعي» أعداء إسرائيل مجدداً وتمزيق لباس بيت العنكبوت الذي أُلبِسته فوق دماء الفلسطينيين المتناثرة.
بعدها، صار في مقدور قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، غادي آيزنكوت، أن يقول في كلمته التي ألقاها في مناسبة إحياء الذكرى الثالثة لقتلى الجيش في عدوان تموز إن «التشبيه الذي كنا نسمعه ذات حين، والذي يشبّه دولة إسرائيل ببيت العنكبوت، لم يعد يُسمع». حرصُ آيزنكوت على إغلاق الدائرة التي فُتحت في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات يمكن أن يشير إلى أن هاجس «بيت العنكبوت» كان ثالث كل قياديين إسرائيليين اجتمعا في خلوة. ويمكن المرء أن يعتقد أن حضور هذا الهاجس كان يثير على الدوام في أذهان المجتمعين ما ورد في سفر يشعياهو من العهد القديم (الإصحاح التاسع والأربعين) «سيغزلون من نسيج العنكبوت... نسيجهم لن يكون لباساً لهم، ولن يغطي أعمالهم».