حوار: أوزفالدو فيراري
ترجمة: أحمد شافعي

في آذار (مارس) من عام 1984، أجرى خورخي لويس بورخس سلسلة حوارات إذاعية مع الشاعر والكاتب الأرجنتيني «أوسفالدو فيراري». ترجمت هذه الحوارات للمرة الأولى إلى الإنكليزية. والحوار التالي يظهر في الجزء الثاني منها، المترجم إلى الإنكليزية بقلم توم بول، والذي يصدر عن دار «سيجَل بوكس» في تشرين الأول (أكتوبر) الجاري.

■ لك مقالة يا بورخيس عنوانها «عبدة الكتب» جعلتني أفكر مراراً في ما تذكره من العناوين والمؤلفين.
- لا أتذكر أي شيء عن ذلك... هل أتكلم فيها عن الكتب المقدسة، عن حقيقة أن لكل بلد كتاباً معيناً مفضلاً؟

■ تذكر ذلك طبعاً، لكنك تشير أيضاً إلى من ينتقدون الكتب إيثاراً للشفاهية. ومن ذلك مثلاً فقرة عند أفلاطون يقول فيها إن الإفراط في القراءة يفضي إلى إهمال الذاكرة والاعتماد على الرموز.
– أعتقد أن شوبنهاور قال إن القراءة هي التفكير بعقل شخص آخر. وهي الفكرة نفسها، أليس كذلك؟

■ حسن، ليس الأمر كذلك، ليست الفكرة نفسها ولكنها فكرة أخرى عدائية تجاه الكتب. هل ذكرت ذلك؟
– لا.
لعلي تكلمت عن حقيقة أن كل بلد يختار، أو يُؤثر أن يتم تقديمه من خلال كتاب برغم أن هذا الكتاب لا يكون في العادة ممثلاً للبلد. فالمرء يعتبر على سبيل المثال أن شكسبير هو الإنكليزي النموذجي. ومع ذلك لا تجد أيّاً من سمات الإنكليز النموذجية حاضرة في شكسبير. فالإنكليز يميلون إلى التحفظ والاقتصاد في الكلام بينما يتدفق شكسبير كالنهر، ويفيض بالمغالاة والاستعارات، هو النقيض التام لشخص إنكليزي. أو غوته، نحن نرى الألمان قوماً يسهل دفعهم إلى التعصب بينما غوته هو النقيض تماماً، فهو رجل سمح، رجل يحيِّي نابليون حينما يغزو ألمانيا. غوته ليس الألماني النموذجي. ويبدو أن هذا شائع متواتر، أم ماذا؟

■ لا سيما في حالة الكلاسيكيات.
- نعم، لا سيما في حالة الكلاسيكيات، وإسبانيا في عهد ثربانتس هي إسبانيا اضطرام محاكم التفتيش، ومع ذلك يتخيله المرء رجلاً مرحاً، متسامحاً، لا علاقة له من قريب أو بعيد بشيء من ذلك. يبدو وكأن كل بلد يبحث في الكاتب الذي يختاره عن ترياق لسمٍّ معين. أما في حالة فرنسا، ومع أن ثراء تراثها الأدبي جعلها لا تختار شخصاً معيناً، إلا أن المرء لو فكّر في هوغو لوجد أنه بوضوح لا يشبه الشعب الفرنسي.

■ بخصوص الكتب المعبودة لديك أنت يا بورخيس، أتذكّر أن كتبك الأثيرة تتضمن «ألف ليلة وليلة» والإنجيل، والموسوعة البريطانية بين كتب كثيرة.
- أعتقد أن الموسوعة بالنسبة إلى رجل فضولي في غير عجلة من أمره هي أمتع الأجناس الأدبية. علاوة على أن لها سلفاً شهيراً هو بلايني Pliny الذي يعدّ كتابه «التاريخ الطبيعي» موسوعة أيضاً. ففيه تجد معلومات في الفن والتاريخ ـ وهو ليس مجرد تاريخ طبيعي بالمعنى المعاصر للمصطلح ـ والخرافات، والأساطير أيضاً. وهكذا فإنه حينما يتكلم عن حيوان ما، لا يقدّم مجرد معلومات وحقائق بل يقدم كل ما سجلته الخرافة ـ الخصائص الأسطورية المنسوبة إليه، وإن لم يكن بلايني نفسه مؤمناً بها. ولكنه في نهاية المطاف أنتج تلك الموسوعة البديعة المكتوبة أيضاً بأسلوب باروكي.

■ بالحديث عن الموسوعة البريطانية تحديداً، ما الذي اكتشفته فيها بمرور السنوات؟
- المقالات المطولة في الأغلب. الموسوعات تؤلَّف اليوم كمراجع، ففيها مقالات طوال وأخرى شديدة القصر. أما الموسوعة البريطانية فمؤلفة للقراءة، هي سلسلة من المقالات، مقالات لمكولاي، وستيفنسن، وسواينبيرن، وفي الطبعات الحديثة مقالات لبرتراند راسل، عن زينو مثلاً. لا بد أن أكون حكيت لك أنني كنت أذهب إلى المكتبة الوطنية بصحبة أبي. كنت شديد الخجل ـ ولا أزال شديد الخجل ـ فلم أكن أجرؤ على طلب الكتب. لكن كانت المراجع متاحة على الأرفف، فكنت أتناول بالمصادفة، مجلداً من الموسوعة البريطانية على سبيل المثال. وحدث يوماً أن أسعدني الحظ فتناولت مجلد D–R وأمكنني أن أقرأ سيرة ممتازة لدرايدن الذي ألف عنه إليوت كتاباً. ثم مقالة طويلة عن الكهنة السلتيين المعروفين بالدرودس، وأخرى عن دروز لبنان المؤمنين بهجرة الأرواح. وهناك دروز صينيون أيضاً. نعم، في ذلك اليوم كنت محظوظاً للغاية. درايدن والدرودس والدروز وكل تلك الأشياء في مجلد واحد يبدأ من حرف الـ D إلى حرف الـ R. في أوقات أخرى لم يكن يسعدني الحظ بتلك الصورة. كنت أذهب مع أبي، وكان هو يبحث عن كتب علم النفس ـ فقد كان أستاذاً لعلم النفس ـ وأقرأ أنا الموسوعة البريطانية. ولاحقا قرأت هكلبري فين لمارك توين في المكتبة الوطنية. ولم يخطر لي قط أنني يوماً ما في مستقبل بعيد الاحتمال سأكون مديراً للمكتبة. لو قال لي شخص ذلك لظننته يهزل. لكن ذلك ما حدث. ولما أصبحت مديراً تذكرت الصبي الذي كان يزور المكتبة مع أبيه فيتناول عن جبن جزءاً من الموسوعة البريطانية من على الرف.

■ وكنت مديراً لقرابة عقدين فيما أعتقد.
- لا أعرف التواريخ بدقة، لكنهم عيّنوني سنة 1955، وحتى ... لا أعرف في أي سنة رجع بيرون Perón، لأنني لم أستطع الاستمرار على النحو الصحيح.

■ في عام 1973. فهي إذن ثمانية عشر عاماً في المكتبة.
- يعني، ليس أمراً سيئاً، صح؟ من المدير الآن؟
■ حتى وقت قريب كان جريجوريو واينبرج.
- آه، نعم، أعتقد أنه استقال، أليس كذلك؟

■ استقال، ولا أعرف من حل محله.
- أتذكر أن الميزانية المخصصة لنا كانت هزيلة. ربما لم يتغير ذلك. ربما لذلك استقال واينبرج.

■ كالعادة، كان على الجميع في ذلك الوقت أن يدبروا أمورهم بالحد الأدنى؟
- وكانت وزارة التعليم هي الأشد ضعفاً، وهواناً. ولعلها لا تزال كذلك.

■ في تلك المقالة يا بورخيس تشير أيضاً إلى الكتاب الثامن من الأوديسة حيث يقال إن الرب كتب الشقاء على البشر ليكون لديهم ما يغنون عنه.
- نعم، أعتقد أن الكتاب يقول إنهم ينسجون الشقاء فيأتي أبناء الأجيال التالية ويكون لديهم ما يغنون عنه، أليس كذلك؟

■ نعم.
- طيب، أعتقد أن هذا يكفي إثباتاً لكتابة الأوديسة بعد الإلياذة، إذ لا يتخيل المرء تأملاً من هذا النوع في الإلياذة.

■ طبعاً، لأن هوميروس يمنح فكرة البدايات...
- نعم، وكما قال روبن داريو: لا شك أن هوميروس كان له هوميروس الخاص به. لأن الأدب دائماً يفترض لنفسه سلفاً، أو تراثاً. يمكن أن يقول المرء إن اللغة نفسها تراث، كل لغة تطرح نطاقاً من الاحتمالات والاستحالات كذلك، أو الصعوبات. أنا لا أتذكر مقالة «عبدة الكتب».

■ موجودة في كتاب «محاكم تفتيش أخرى»
- أنا متأكد أنها موجودة، فلست أعتقد أنك اخترعتها لتختبر ذاكرتي، أو ضعف ذاكرتي بالأحرى (يضحك)

■ موجودة، وترجع أيضاً إلى عام 1951.
- آه، جميل، حسن، في هذه الحالة يكون لي كل الحق أن أنساها. سيكون مؤسفاً جداً أن أتذكر سنة 1951.

■ ولكنك تنتهي برأي لستيفن مالارميه.
- آه، نعم، كون كل شيء يفضي إلى كتاب؟

■ بالطبع.
- نعم، لأنني أنقل تلك السطور من هوميروس وأقول إن كليهما يقولان الشيء نفسه. لكن هوميروس كان لا يزال يفكر في الأغنية، في الشعر الذي ينفجر من فورة الإلهام. في المقابل كان مالارميه يفكر في كتاب، وبمعنى من المعاني، في كتاب مقدس. والاثنان، وفي واقع الأمر، واحد ـ كل شيء موجودٌ لينتهي إلى كتاب، أو كل شيء يفضي إلى كتاب.

■ هذا يعني أن الأحداث في نهاية المطاف أدبية. ولكن الكتاب الذي دائماً ما توصي بقراءته حتى غير المتحمسين للأدب هو الإنجيل.
- حسن، لأن الإنجيل مكتبة. وما أغرب فكرة نسبة العبريين أعمالاً متفاوتة مثل التكوين ونشيد الإنشاد وسفر أيوب والجامعة وجميع تلك الأعمال إلى مؤلف واحد هو الروح القدس. ومن الواضح أنها أعمال تنم عن عقول شديدة التباين، مختلفة البيئات وأهم من ذلك كله أنها مختلفة الأزمنة، تنتمي إلى حقب متنوعة من حقب التفكير.

■ حسن، لا بد أن لذلك علاقة بقول آخر في الإنجيل: «الريح تهب حيث تشاء».
- وهذا يرد في إنجيل يوحنا فيما أعتقد، أليس كذلك؟ في الآيات الأولى.

■ نعم، ولو قارنتها بعبارة من ويستلر: «الفن يحدث» في حوار آخر من حواراتنا.
- لم أنتبه لذلك، لكنها الفكرة نفسها بالطبع، «الفن يحدث». «الريح تهب حيث تشاء». يعني، هي المقابل لعلم اجتماع الشعر، أليس كذلك؟ أعني لدراسة الشعر اجتماعياً، لدراسة الظروف التي أنتجت الشعر. ذلك يذكرني بهاينه الذي قال إن المؤرخ نبي بأثر رجعي، شخص يتنبأ بما وقع بالفعل. هي الفكرة نفسها تقريباً.

■ طبعاً، نبي بالعكس.
- نعم، شخص يتنبأ بما وقع فعلاً، وبما يعلم المرء أنه وقع، أليس كذلك؟ «نبي ينظر وراءه»، ذلك هو المؤرخ.

■ من أين ذلك يا بورخيس؟
- هاينه. التاريخ هو فن الغوص في الماضي، أليس كذلك؟

■ نعم، فن المؤرخ.
- نعم، بمجرد أن يحدث شيء، يبيّن المؤرخ أن حدوثه كان محتوماً. ولكن الأكثر إثارة في الحقيقة هو إعمال ذلك على المستقبل.

■ هذا أصعب من التنبؤ بالماضي، أصعب على المرء أن يكون نبياً من أن يكون مؤرخاً.
- يعني، بهذه الطريقة تكتب التواريخ الأدبية. يتناول المؤرخ كل كاتب، ثم يبيّن تأثير خلفيته عليه، ثم أن المنطق يؤكد أن أعماله هذه كان لا بد أن تأتي منه. ولكن هذا المنهج لا ينطبق على المستقبل، بمعنى أن المؤرخ لا يستطيع أن يحدد أسماء الكتاب الأرجنتينيين في القرن الحادي والعشرين أم ماذا؟

■ لكن التواريخ الأدبية ليست مطالبة بالصحة كما في التاريخ، يبقى مسموحاً للمؤرخ أن يكون أدبياً.
- نعم، أو هذا ما أرجوه.

■ هناك كتاب آخر يتواتر ظهوره في مكتبتك في تصوري هو «ألف ليلة وليلة».
- نعم، وقد أتاح لي جهلي بالعربية أن أقرأه في ترجمات كثيرة، ولا بد أنني أخبرتك بالطبع أن أمتع نسخة بين النسخ التي قرأتها كافة هي ترجمة رافاييل كانسينوس أسينس. ربما أمتع منها الترجمة الأولى لأنطوان جالاند الذي كان أول من قدم الكتاب للغرب.

■ في مقالتك، هناك فكرة أخرى أجدها مثيرة للاهتمام، تقول إن الكلمة المكتوبة كانت بالنسبة للقدماء مجرد بديل من الكلمة المنطوقة.
- نعم، أعتقد أن أفلاطون يقول إن الكتب أشبه بكائنات حية لكنها أيضاً أشبه بتماثيل، يحدثها المرء فلا تجيبه.

■ آه، طبعاً.
- ثم إنه، لكي يجعل الكتب تجيب، اخترع الحوار الذي يتنبأ بأسئلة القارئ ويتيح المجال للتفسير وتكثير الأفكار.

■ نعم، هذا ينطبق على اللغة الشفاهية، لكنك تضيف أنه قرب نهاية القرن الرابع، تبدأ الكلمة المكتوبة في السيطرة على اللغة.
- آه، وأشير إلى نادرة الشخص الذي اندهش لمّا رأى شخصاً آخر يقرأ في صمت.

■ طبعاً. دهشة القديس أوغسطين من القديس أمبروزو فيما أظن.
- نعم، يندهش إذ يرى شيئاً لم يره من قبل مطلقاً: شخص يقرأ في صمت لنفسه. وبالطبع كان ينبغي أن يندهش، لأن الكتب كانت تكتب باليد. وكان عليك أن تختبرها أكثر من مرة ـ حينما تتلقى رسالة، ولا يكون خط اليد فيها مبرأ من العيوب، لنقل إنك تتلوها لتفهمها، أليس كذلك؟

■ صحيح.
- ولو كانت الكتب مكتوبة بخط اليد، فالطبيعي أن تتلى. بعيداً عن هذه النقطة، أعتقد أنك وأنت تقرأ في صمت، قد تأتي إلى فقرة قوية، فقرة تؤثر فيك، فإذا بك تميل إلى تلاوتها. أعتقد أن الفقرة حسنة الصياغة تقتضي التلاوة. وذلك واضح، في حالة الشعر، لأن موسيقى الشعر تحتاج إلى التعبير عنها ولو بالغمغمة، تحتاج إلى إنصات لها. في المقابل، لو أنك تقرأ شيئاً منطقياً محضاً، مجرداً محضاً، يكون الأمر مختلفاً. في هذه الحالة، يمكنك الاستغناء عن الجهر بالقراءة، ولكنك لا يمكن أن تستغني عنها وأنت تقرأ قصيدة.

■ هذا جزء من الارتقاء، مهما كان بسيطاً، الارتقاء الذي يستوجبه الشعر.
- نعم، ولكن هذا يضيع الآن بالطبع، إذ لم تعد لدى الناس هذه الأذن. لسوء الحظ، الجميع الآن قادرون على القراءة في صمت، لأنهم لا يسمعون ما يقرؤون، يذهبون مباشرة إلى معنى النص.

■ نشر هذا الحوار إلكترونياً في مدونة «نيويورك رفيو أوف بوكس» في 24 سبتمبر 2015