لم تفتتح الأزمة المالية العالمية موسم تراجع الصحافة، لكنّها فضحته تماماً. فالانحدار بدأ منذ أن ارتضت الصحافة لنفسها أن تتحوّل رهينة بأيدي المعلنين. ما هي الآثار التي تركتها الفضيحة المالية على الصحف، وهل من سبيل للخروج من الأزمة؟
صباح أيوب
200 جريدة أميركية على الأقل توقفت عن النشر منذ كانون الثاني 2009، 12 صحيفة منها تحولت إلى النسخة الإلكترونية، أكثر من 14،905 موظفين استُغني عن خدماتهم في الصحافة المكتوبة في الولايات المتحدة حيث تراجعت الإيرادات الإعلانية بنسبة 29% خلال النصف الثاني من العام. شركة «نيوزكورب» العملاقة لصاحبها روبرت موردوخ منيت بخسارة «تاريخية» كما يصفها موردوخ نفسه، فاقت 6 مليارات دولار، ما اضطرّها إلى صرف مئات الموظفين من المؤسسات التابعة لها وخفض ميزانية كل منها. شركة «غارديان نيوز اند ميديا» البريطانية (التي تنشر صحيفة «غارديان» و«أوبزورفر») سجلت 33 مليون باوند خسارة لهذه السنة، وأجبرت على اقتطاع 25 مليون باوند من مصاريفها كان من بينها تسريح أكثر من 100 موظف (بين محررين وإداريين). في أوروبا وفرنسا تحديداً، نجد الحال نفسها، بين صرف مئات الموظفين في الصحف اليومية وتقليص النفقات في دور النشر والمؤسسات الممولة: مجموعة «لاغاردير» مثلاً سجلت 24% تراجعاً في الإعلانات، وخسارة تقدر بتسعة ملايين يورو، وصرف حوالى 250 موظفاً.
أرقام مخيفة حلّت على جداول المؤسسات الإعلامية في العالم، والتي لا تزال تترقب الأسوأ، وخصوصاً مع انعدام الحلول البديلة الناجعة، واستمرار تفاعل نتائج الأزمة المالية. لكن الأمر الأهمّ الذي كشفت عنه تلك الأرقام هو مدى هشاشة وضع الصحافة المكتوبة أصلاً، وهي التي، على ما يبدو، كانت تداوي مصيبة تراجع نسبة القرّاء (منذ التسعينيات) بالاعتماد على المعلنين ليس إلا! هكذا، لم يشهد الإعلام المكتوب تراجعاً أسوأ في تاريخه، بما في ذلك أزمة التلفزيون والإنترنت الأخيرة، والسبب هو انهيار العمود الفقري التمويلي للمؤسسات الإعلامية.
فقد اعتمدت هذه المؤسسات منذ أعوام عديدة على مجموعات مموِّلة سمّيت «عائلات الإعلام» (موردوخ، لاغاردير، بويوغ، برلوسكوني...). كما «ابتكرت» هذه الأخيرة، وهي مؤسسات مالية بحتة، إعلامها الخاص الموجه بحسب مصالحها الاقتصادية، ممّا انعكس على نوعية المواد الصحافية التي باتت تركّز على الأخبار «الخفيفة» والمنوعات والتسلية والشخصيات... أخبار تتوافق مع «حاجات السوق» الذي تحكمه الشركات التجارية وأصحاب رؤوس الأموال أساساً. وقد حوّل ذلك الصحف إلى مؤسسات تجارية تبغي الربح، لا أكثر ولا أقلّ.
حلقة مالية مفرغة كانت تدور فيها الصحف التي ألّهت مصادر التمويل على حساب المقالات التي تتوخى نقل الوقائع: هكذا حلّت أخبار وكالات الأنباء مكان المراسلين في الخارج، واستُبدِل الصحافيون المتخصصون بموقع «ويكيبيديا»، كما استبدلت مصادر المعلومات بالعلاقات العامة...
رأس المال الذي تصدّع مع الأزمة العالمية الأخيرة زعزع ركائز المؤسسات الإعلامية التي كشفت عن تبعية كبيرة لمموّليها، وهو ما كانت تحاول الصحف، حتى ما قبل الأزمة، أن تنكره أو تموّهه. «ما دام هناك أخبار، سيكون هناك صحافيون وصحف»، يقول أحد المراقبين المتفائلين، فيما يرى آخر أن الموت المعلن هو «موت الصحف، لا الخبر!».

مشهد «الموت» بالأرقام

في الولايات المتحدة الأميركية، أكثر المتأثرين بالأزمة المالية العالمية، ضُربت أكبر المؤسسات الصحافية في الأرباح، والإعلانات، والاشتراكات. ولا يزال تسريح الموظفين مستمراً لغاية اليوم... «لا نريد أن نكون بابا نويل الشرير» (غرينش) يقول ناشر «نيويورك تايمز» ومديره، لكنه يعلم أنه سيوقع في الأسابيع المقبلة على قرارات صرف إضافية في صحيفته.
نسبة القراءة آخذة بالانحدار منذ سنوات (التسعينيات تحديداً)، فيما يتّجه اهتمام القارئ الأميركي إلى الصحف المحلية (في كل ولاية) حيث أخبار الأحياء وجرائم الولاية وشؤونها الضيّقة.
وفي مواجهة ذلك، اتّجهت الصحف إما لاستدانة مبالغ مالية مباشرة (بنسب فوائد مرتفعة): في كانون الثاني 2009 مثلاً، استثمر الملياردير المكسيكي كارلوس سليم مبلغ 250 مليون دولار في «نيويورك تايمز». والبعض الآخر، كـ«لوس أنجلس تايمز» استغلّ أرباح إعلاناته ليموّل الأقسام التحريرية. ولكن بما أن المعلنين أصيبوا بالأزمة نفسها، كان من الطبيعي أن تشهد مساهماتهم في الصحف تراجعاً ملحوظاً، إذ لا سلع تباع للإعلان عنها ولا وظائف شاغرة للترويج لها على صفحات الجرائد... وقد تحوّل معظم المعلنين (وخصوصاً في أوروبا) إلى المواقع الإلكترونية.

منذ التسعينيات، تداوي الصحافة مصيبة تراجع نسبة القرّاء بالاعتماد على المعلنين ليس إلا
فقد أشهرت أقسام المبيعات والإعلانات في الصحف أرقاماً تدل على ارتفاع كبير في نسبة قرّاء «الويب» لجذب المعلنين وإقناعهم باستثمار أموالهم في مواقع الصحف الإلكترونية. ومع ذلك، سجّلت سنة 2009 تراجع 11% بين معلني «الويب» وانسحاب 18% كلياً من الإعلان الإلكتروني.
في فرنسا، ترافقت الأزمة مع انتقادات حادّة لمضامين الصحف وتدني مستوى ما تقدمه للقرّاء (راجع مقالة سيرج حليمي «معركتنا» ــــ «لو موند ديبلوماتيك»، تشرين الأول 2009). وقد بدأت الصحف الفرنسية مواجهة الأزمة المالية بزيادة أيام «العطل»، أي تلك الأيام التي لا تطبع فيها ولا تنشر ولا توزع (يحقق ذلك توفيراً قدره 100 ألف يورو لكل يوم عطلة)، ثم لجأت فوراً إلى سياسة الصرف وتقليص النفقات وإغلاق المكاتب الخارجية.
وبدأت بعض الإحصاءات القديمة تلقى صدى في ظل الأزمة الحالية، إذ ذكّرت الدراسات بأنه منذ 9 أعوام، 1/2 من الفرنسيين لا يثقون بصحافتهم و2/3 منهم يرون أنّ معظم الصحافيين ليسوا مستقلين... ولم تتغيّر هذه النظرة إلى اليوم!

الإنترنت: الرابح الوحيد

القطاع الوحيد الذي سجّل ارتفاعاً في عام الهبوط هو الإنترنت. في أميركا مثلاً، سجّل قرّاء الإنترنت ارتفاعاً بنسبة 11،9% مقارنة بالعام الماضي. لكن الإنترنت بما يمثّله من مجانية في القراءة والبحث والعمل الصحافي، اعتبر جزءاً من الكارثة، وألقت الصحف كل اللوم عليه. أما الواقع، فيشير إلى تحوّل عدد كبير من المعلنين في جميع أنحاء العالم إلى الوسيلة «الأكثر استخداماً» عند الجيل الجديد. وقدّرت دراسة تابعة لإحدى وكالات «مجموعة بوبليسيس» أنّه رغم التراجع والانسحابات، لا يزال 56% من المعلنين يرون في الإنترنت «الوسيلة الأفضل لإعلاناتهم».
ولمواكبة الموجة الإلكترونية الجديدة، أنشأت المؤسسات الإعلامية (وخصوصاً المطبوعات) مواقع إلكترونية، وخصصت لها أقساماً تحريرية وإدارية مستقلة. وتحوّل بعض الصحف بالكامل إلى صحف إلكترونية مستغنية عن الطباعة والأكشاك. «تغيّر الأجيال هو أمر مخيف، لكن علينا اللحاق به والتأقلم معه لخدمة جيل أولادنا وأولادهم»، يقول أحد مسؤولي التحرير في صحيفة أميركية. صحيفة «لو موند» مثلاً تشير إلى أنّ اشتراكاتها تعتمد في جزئها الأساسي على المشتركين عبر موقعها الإلكتروني (15 ألف مشترك عبر الإنترنت في السنة). «لو فيغارو» بدورها تعترف بأنّ موقعها هو الوسيلة الثانية للتوظيف والاستكتاب. هذه الصحيفة فهمت جيداً أهمية «الويب»، فاشترت موقع مبيعات (كتب، هدايا، سلع مختلفة) وآخر لحجوزات بطاقات السينما وموقعاً ثالثاً لبيع الأسطوانات... صحيفة «ليبراسيون» أيضاً بدأت منذ 2008 عرض بعض المنتجات على موقعها، إضافة لحجوزات في فنادق أوروبية...
روبرت موردوخ شنّ أخيراً حرباً على من أسماهم «سارقي المقالات»، قاصداً بذلك محرّكات البحث الإلكترونية، وخصوصاً «غوغل» (الموقع الأول عالمياً). كما طالب كثيرون أخيراً بأن تكون الصحافة الإلكترونية مدفوعة. حلّ لا يتناسب كثيراً مع عدم القدرة على ضبط إيقاع الأخبار على الشبكة العنكبوتية التي بإمكانها أن تنقّل «أعشاشها» متى أرادت، وأينما شاءت.
ما المطلوب إذاً؟ طريقة جديدة في التفكير؟ أسلوب جديد في القراءة؟ صحافيون جدد ميدان عملهم الكرة الأرضية، ووسيلتهم صفحات إلكترونية؟ على الصحف ألا تتأخّر في الإجابة.
 
مصادر الأرقام:
خريطة paper cuts من إعداد إيريكا سميث:
http://graphicdesignr.net/papercuts
ـ تقرير مؤسسة Pew الأميركية لعام 2009


عيّنة من الإصابات

في ما يلي عيّنة ممّا أصاب أكبر 5 صحف في أميركا هذا العام:
ــــ «وول ستريت جورنال» (2,024,269 نسخة في اليوم) صرفت حوالى 34 موظفاً وأغلقت مكتبها في ولاية بوسطن.
ــــ «يو إس إي توداي» (1,900,116 نسخة في اليوم) صرفت 20 محرراً (في كانون الثاني 2008) وألغت 26 وظيفة في 2009.
ــــ «نيويورك تايمز» (927,851 نسخة في اليوم) استغنت عن 100 موظّف، وتقتطع منذ آذار الماضي، وعلى مدى تسعة أشهر، 5% من رواتب الموظّفين.
ــــ «لوس أنجلس تايمز» (657,467 نسخة في اليوم) صرفت 250 موظفاً، بينهم 150 محرراً إخبارياً.
ــــ «واشنطن بوست» (582,844 نسخة في اليوم) استغنت عن أكثر من 100 صحافي في قسم التحرير وأقفلت مكاتبها المحلية في الولايات الأميركية (نيويورك، شيكاغو ولوس أنجلس).