strong>منصور عزيزكثرت في الآونة الأخيرة التنبّؤات بزوال الصحافة التقليديّة المطبوعة، خلال سنوات معدودة. الخبراء يحدثوننا عن زمن قريب تختفي فيه الجريدة الورقية من صالوناتنا، ويختفي معها بائع الجرائد والكشك، وتغلق الصحف مكاتبها الواحدة تلو الأخرى. ويلفت هؤلاء إلى أزمة الصحف التي طاولت السوق الأميركي أكثر من أي سوق آخر، متأثرة بالأزمة الاقتصادية التي قلّصت ميزانيات الإعلانات والإنفاق الفردي، ليطلق الكثيرون على عام ٢٠٠٩ تسمية «سنة موت الجريدة».
فعلاً توقفت صحف أميركية عدة عن الصدور خلال الأشهر القليلة الماضية، على الأقل في نسختها الورقية، مثل «روكي ماونتن نيوز»، و«سياتل بوست انتيلجنسر». وأُعلن إفلاس أو شبه إفلاس مجموعات صحفية كبرى، من بينها جريدة «نيويورك تايمز» العريقة. الأسباب متعددة ومتشعّبة: تقلُّص قراء المطبوعات، ارتفاع كلفة الورق والتوزيع، وانتشار الإنترنت والشبكات الاجتماعية الإلكترونية. الجدير بالذكر هنا أن موقع «كريغز ليست» تحديداً يسبب مصدر إزعاج للكثير من ناشري الصحف، لأنه استطاع استقطاب عدد هائل من الإعلانات المبوّبة، ليصبح أحد أكثر المواقع زيارةً في العالم، علماً أن مؤسّس الموقع كريغ نيومارك وصاحبه «الليبرتاري»، ما زال يرفض وضع أي إعلان على الموقع، ويصرّ على استخدام التصميم البدائي المتقشّف، وهو نفسه منذ إطلاق الموقع في أواخر التسعينيات.
الصورة قاتمة أيضاً في لبنان، وبدرجات متفاوتة في دول عربية أخرى. التوزيع الورقي للصحف اللبنانية مجتمعة لا يتجاوز ٧٠ ألف عدد في أحسن التقديرات (بالرغم من صعوبة الحصول على أرقام دقيقة)، بعد عقود من التدهور منذ الفترة «الذهبية» في أوائل السبعينيات، حين كانت الصحف اللبنانية توزّع أكثر من ٤٠٠ ألف نسخة. موجة الإقالات وشبح العجز المالي أيضاً يشملان الصحف اللبنانية، بعدما صُرف قرابةَ خمسين موظفاً من جريدة «النهار» (راجع «الأخبار» ٢٨/ ٩/ ٢٠٠٩)، وأُغلق مكتب جريدة «الشرق الأوسط» السعودية الشهر الماضي. كما أن معظم الصحف اللبنانية تعترف بأنها كانت غير مربحة خلال السنوات الخمس الماضية، وأنها تضطر إلى قبول هبات أو دعم مالي لمعالجة العجز، حسب تقرير أصدرته مؤسسة «انترنيوز» هذا العام.
لكن، على الرغم مما تقدّم، فإن الصورة القاتمة لوضع الصحيفة المطبوعة ليست قابلة للتعميم. في اليابان، ورغم أنها تتمتع بإحدى أعلى نسب استخدام الإنترنت في العالم، فإنّ صحفها الخمس الأولى تشهد أعلى نسبة قراءة في العالم. في دراسة نشرها في مطلع العام الجاري مركز نيمن للصحافة في جامعة هارفرد، تبين أن ٣ بالمئة فقط من قراءة الجريدة تحصل على الإنترنت، إذا دُمجت إحصاءات القرّاء، وعدد قرّاء الصفحات وفترة القراءة لكل من الجريدة الورقية والإلكترونية.
أما العالم العربي، فشهد خلال السنوات الماضية إصدارات جديدة لصحف استطاعت خرق توزيع الصحف التقليدية، وخلق نمط جديد للصحافة المكتوبة ـــــ المطبوعة والإلكترونية في آن واحد ـــــ مثل «المصري اليوم» المصرية، و«الوسط» البحرينية، و«الأخبار» اللبنانية، التي تتصدّر قائمة الصحف الأكثر قراءة على النت في لبنان ـــــ حسب موقع alexa.com ـــــ سابقةً زميلاتها بأشواط عدّة، للتحوّل إلى فضاء حقيقي للتفاعل والنقاش بشأن القضايا الأساسيّة المطروحة على المواطن العربي، في شتّى المجالات السياسيّة والفكريّة والاجتماعية والقوميّة والمطلبيّة والثقافيّة.

النسخة الإلكترونية للجريدة من شأنها أن تنعكس إيجابيّاً على التوزيع الورقي

بالرغم من زيادة عدد قرّاء النسخة الإلكترونية للكثير من الصحف عالمياً، تبقى تلك النسخة غير مربحة
في الجانب الآخر، وبالرغم من زيادة عدد قرّاء النسخة الإلكترونية للكثير من الصحف عالمياً (عدد قرّاء الصحف اللبنانية على الإنترنت لم يسجّل ارتفاعاً ملحوظاً خلال السنة الماضية)، فهي في أغلبها غير مربحة. لا يوجد حتّى الآن نموذج واحد، أو حتى خلطة من النماذج لكيفية الربح من النشر الإلكتروني. في المقابل، هنالك دراسات رصينة تُظهر أن النسخة الإلكترونية للجريدة من شأنها أن تنعكس إيجابيّاً على التوزيع الورقي، على عكس الفكرة السائدة أن النشر الإلكتروني حتماً يُضرّ الورقي بل يعلن نهايته! الإنترنت ليس قاتل جوهانس غوتنبرغ إذاً (مخترع الطباعة الحديثة في أوروبا القرن الخامس عشر)؟
لقد كثر الحديث أخيراً عن نيّات روبرت مردوخ، عرّاب الإعلام التجاري، استخدام نظم الدفع الصغيرة والاشتراكات بديلاً لفشل الإعلانات التجارية في تحقيق أيّ ربح يذكر (لم تعد تتجاوز الـ ٥ في المئة من ربح الإعلانات الورقية في معظم الصحف)، بعد سنوات من توقعات «مضاربة» للنمو الإعلاني على الإنترنت. مردوخ يريد إنقاذ الصحافة الإلكترونية، لكن معظم المعنيين لا يكترثون لما يقوله، فهو «لا يستعمل كمبيوتر، لا يقرأ الإيميل، ولا يعرف كيف يشغّل هاتفه الجوّال»، حسب ما قاله مؤلّف سيرته البيوغرافيّة الصحافي مايكل ولف.
معضلة النشر الإلكتروني أكثر تفاقماً في لبنان من غيره من الدول. فمن ناحية، هو إحدى أضعف الدول عالمياً في التجارة الإلكترونية والدفع عبر الإنترنت، ومن ناحية أخرى تمثّل نسبة قرّاء الصحف اللبنانية من داخل لبنان أحياناً أقلّ من ثلث الزوار، فيما تتكوّن النسب الأكبر من قرّاء المواقع اللبنانية في فضاء الاغتراب (أميركا، السعودية، كندا، فرنسا، إلخ)، إضافةً طبعاً إلى نسبة غير ضئيلة من القرّاء العرب. أضف إلى ذلك انعدام أيّ دور للدولة في دعم المؤسسات الإعلامية، كما يحصل في العديد من الدول «الرأسمالية». كل هذا يؤثّر سلباً في القدرة على خلق نماذج ناجحة للربح عبر الإعلانات أو الاشتراكات.
كل ما سبق لا يعني أننا في «الأخبار» فقدنا الأمل في تأسيس نماذج ناجحة لاستدامة كلّ من النسختين الورقية والإلكترونية في الوقت نفسه، وتحويل تلك المعضلات إلى فرص للابتكار والنجاح. سنستمر خلال العام المقبل في دمج النسختين الورقية والإلكترونية، وفي توسيع الخدمات والوسائل والتغطية الخبرية على مدار الساعة. نقبل هذا التحدي، وندرك تماماً أن القرّاء هم شركاؤنا الأساسيّون في دعم هذا المنبر الحر، وضمان نموّه واستقلاليّته.