ساهمت الأعوام الخمسة الأخيرة، وما رافقها من استقطابات سياسيّة حادّة، في تعميق الهوّة بين الالتزام المهني والتوجّه السياسي للمؤسّسات الإعلاميّة. وهي هوّة كانت موجودة أصلاً، وعمل على تغذيتها الدولة، المموّلون وأصحاب الصحف، إضافة إلى الصحافيّين أنفسهم!
مهى زراقط
كلّ باحث في تاريخ الصحافة اللبنانية، يقع على حادثة شهيرة حصلت بين الرئيس الأسبق للجمهورية اللبنانية شارل حلو وأعضاء مجلس نقابة الصحافة في لبنان، إذ قال لهم مستقبلاً ذات يوم: أهلاً وسهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان. وكان يقصد بذلك أن لهم وطناً أوّل هو الدولة (الأخرى) التي تموّل إصدار مؤسساتهم الإعلامية.
كما لم يتردّد شارل حلو أيضاً، وهو صحافي سابق، خلال مشاركته في أعمال القمة العربية في القاهرة عام 1964 في شكر رؤساء الدول الذين أثاروا قضية الإعلام في لبنان. فقال إنه كان يرغب في الحديث عن هذا الموضوع ليطلب من رؤساء بعض الدول المشاركين في أعمال القمة التوقف عن تمويل المؤسسات الإعلامية الناطقة باسمهم.
هذه الحادثة الشهيرة، تساق في كلّ مرة يطرح فيها تمويل المؤسسات الإعلامية في لبنان للتأكيد على تبعيتها السياسية أو لتبرير سلوك قديم في الصحافة اللبنانية بات يمكن تسميته تقليداً أو عرفاً.
لكن هناك حادثة ثانية لا يذكرها كثيرون حصلت في التسعينيات. فبعد شهرين من تسلّم الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة في لبنان عام 1992، استقبل بدوره وفداً إعلامياً في قصره في قريطم، وبدأ حديثه معهم بالقول: «قال الرئيس شارل حلو مرة للصحافيين أهلاً وسهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان، أما أنا فأقول لكم أهلاً وسهلاً بكم في وطنكم الأول لبنان». يمكن تفسير هذه العبارة بطريقتين، إما أن الرئيس الراحل رفيق الحريري كان يقول للصحافيين، من الآن وصاعداً عليكم أن توقفوا هذا الولاء المزدوج، أو أنه يقول لهم: من الآن وصاعداً لن تحتاجوا إلى تمويل خارجي، فأنا قادم لتمويلكم. للأسف، أثبتت التجربة صحة الفرضية الثانية، من دون أن تتوقف بعض المؤسسات عن اللجوء إلى تمويل خارجي أيضاً.
يفرض هذا الواقع على المؤسسة الإعلامية اتباع سياسة لا تسيء إلى المموّل. لكن الطريف في لبنان أن بعض الصحافيين الذين كانوا يتقاضون الأموال من بعض الأطراف، كانوا يعتبرون هذا الأمر من حقهم ولا يعني بالضرورة أنهم ملتزمون شيئاً تجاه المموّل. كما أن بعض المؤسسات قد تشترط على المموّل عدم التدخل في سياستها أو كتابات الصحافيين العاملين فيها.
باختصار، المؤسسات الإعلامية في لبنان كما في معظم دول العالم مرتبطة مادياً بدول، بمؤسسات، برجال أعمال، يتدخلون في سياساتها مهما كبر هامش هذا التدخل أو صغر. والدليل أن كلّ صحافي راغب في العمل في مؤسسة معينة، يعرف الخطوط الحمراء لهذه المؤسسة أو تلك. هذا ليس حكماً يساق من دون أدلة، بل هو نتيجة خبرة شخصية أيضاً. فقد كنت في مرحلة من المراحل مسؤولة عن إصدار ملحق أسبوعي للشباب، أي على تماسّ مباشر مع صحافيين متخرّجين لتوّهم من الجامعات. ولا أخفي دهشتي بأني كنت ألاحظ لديهم ميلاً طوعياً إلى ممارسة رقابة ذاتية. تراهم يُسقطون من كتاباتهم أموراً يفترضون هم، أن المؤسسة الإعلامية التي يكتبون لها سترفض نشرها. أي إنه، منذ اللحظة الأولى التي يدخل فيها الصحافي إلى مؤسسة ما، يكون قد رسم لنفسه خطوطاً يعتقدها هو حمراء.
سببان يقفان خلف هذا الواقع. أولاً: قانون الإعلام المرئي والمسموع الذي طبّق في عام 1996 على مبدأ المحاصصة الطائفية والسياسية، ما حرم مؤسسات إعلامية عابرة للطوائف من الحصول على تراخيص للبث. أما السبب الثاني المرتبط بالصحافة المكتوبة هذه المرة، فهو التمويل الذي كانت تتقاضاه تلك الأخيرة، وبعض الصحافيين العاملين فيها، ما يمنع التطرّق إلى مواضيع معينة أو عدم الاستمرار في الحديث عن قضايا أخرى. وكان لافتاً في تلك المرحلة مثلاً أن يكون معظم الصحافيين راغبين في العمل في الصحافة غير السياسية، وبالفعل برز كثير من الزملاء في إطار التحقيقات والبرامج الاجتماعية.
بعد الزلزال الذي هزّ لبنان، أي اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، برزت مشكلة التبعية بروزاً فاقعاً بفعل الانقسام السياسي الحاد الذي شهده لبنان، والمعاناة التي عاشها كثير من الزملاء في ممارستهم عملهم خلال تلك المرحلة. الصحافيون جزء من المجتمع اللبناني، لهم آراؤهم السياسية وخلفياتهم الثقافية المختلفة، وهذا طبيعي. لكن ما هو غير طبيعي أن ينعكس هذا الانقسام على الممارسة المهنية من جهة، أو أن تفرض المؤسسات الإعلامية على الصحافيين العاملين لديها انتهاكاً للمعايير المهنية كما حصل، من جهة ثانية. فقد تحوّلت بعض المؤسسات، بين ليلة وضحاها، من سياسة إلى أخرى. وكان القيّمون عليها يفترضون بالصحافيين العاملين معهم أن يتحوّلوا بدورهم، وكأنهم عناصر في حزبها. النتيجة كانت رضوخ البعض لهذا الواقع الجديد بسبب غياب فرصة عمل أخرى. أي إن الحاجة المادية لعبت دورها في تحويل صحافيين مميّزين إلى مجرد شهود زود يوقعون على وقائع، نكتفي بالقول إنها لم تكن مهنية.
بعض المؤسسات تحوّل أيضاً إلى مقارّ حزبية يُفرض فيها على العاملين توقيع عرائض وبيانات ضد لبنانيين آخرين، وبعضها لم يتردّد في طرد موظفين يعملون لديه بحجة أنهم «جواسيس» للطرف الآخر، إذا لم يكونوا منتمين إلى طائفة أخرى.
في المقابل، كان هناك صحافيون منبرون للتحدّث بأسماء الأحزاب والتيارات وحتى الشخصيات السياسية. لا نحكي هنا عن كتاب الرأي وصنّاعه، ولا عن افتتاحيات يوقع فيها الصحافي باسمه على ما يعرفه كلّ قارئ أنه رأي، بل عن تغطيات خبرية، عن مقدّمات لنشرات إخبارية، ومقابلات صحافية تحوّلت كلّها إلى منابر للشتم والتحريض.
يمكن فهم حماسة صحافي لفريق دون آخر، وهو يقول «هذا رأيي». لكن لا يمكن التسامح مع تغطية خبرية يقول فيها الصحافي عن لبنانيين آخرين إنهم «رعاع» مثلاً، لأنهم يقومون بأمر لا يعجبه، أو بالأحرى لا يعجب مموّلي الوسيلة الإعلامية التي يعمل لمصلحتها.

بعض المؤسسات تحوّل إلى مقارّ حزبية يُفرض فيها على العاملين توقيع بيانات ضد لبنانيين آخرين
باختصار كان الصحافيون الضحية الأولى لما يجري، والمقصود بالصحافيين هنا، أولئك المنتمون أولاً وأخيراً إلى المهنة، لا العاملون في خدمة مموّليهم. هؤلاء باتوا يحاسبون على انتماءات مؤسساتهم. لا يُقرأ ما يكتبونه إلا في إطار السياسة العامة لهذه المؤسسة أو تلك، وهذا ما عرّض عدداً من الزملاء للضرب، لا سيما المصوّرين. كما أدى إلى طرد الأهالي بعض الصحافيين من «مناطقهم»، لأنهم يفترضون أن المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها هؤلاء أساءت لهم، أو لأنهم لا يحبونها، أو لأنها تهاجم الفريق الذي يحبونه. وهذا أمر محزن، لأن الصحافي هو أولاً وأخيراً ناطق بلسان الناس، لا يمكنه أن يشعر بالتحقق مهنياً إذا طرده هؤلاء الناس من بيئتهم.
وهنا يطرح السؤال الأهم: من يتحمّل المسؤولية؟
يمكن القول إن المسؤولية مشتركة. هي أولاً مسؤولية الدولة التي سمحت بتطبيق خاطئ لقانون إعلام عصري، فقسمت التراخيص الإعلامية بين الطوائف، وهذا ما سهّل عملية فرزها وفرز العاملين فيها.
وهي ثانياً، مسؤولية أصحاب المؤسسات الإعلامية، الذين مارسوا ضغوطاً على الصحافيين العاملين لديهم، مباشرة أو غير مباشرة، ولم يتشددوا في المطالبة باحترام شروط العمل الصحافي. وهنا يمكن الاستطراد بعض الشيء وسؤال أصحاب هذه المؤسسات عن عدد المرات التي خاضوا فيها نقاشاً مهنياً مع الصحافيين العاملين معهم. هل انتقدوهم يوماً لأنهم أخلّوا بمعيار مهني مثلاً، أم بالعكس لأنهم أزعجوا سياسياً لا يفترض بالمؤسسة إزعاجه؟
ثالثاً، وهو الأهم، إنّها مسؤولية الصحافيين أنفسهم الراضخين لتغييبهم عن نقابتهم، والقانعين بحضن مؤسسات تنتهك حقوقهم وتهددهم بالفصل في أيّ لحظة، من دون أن يجدوا سنداً، حتى من زملائهم في مؤسسات أخرى. بل قد يعتبر التضامن معهم، شماتة، بعدما نجحت التبعيات السياسية للمؤسسات في تحويل الزملاء إلى أعداء.