ثمة معايير عدة منتجة في قياس مدى احترام الحرية الإعلامية. ومن أهمها في الوضعية الحالية للقوانين اللبنانية هو مدى الاعتراف بجواز التشهير حين يكون التشهير واجباً، أي كلما بدا أن ثمة مصلحة اجتماعية تقضي بنشر/ فضح أفعال معينة. ففي هذه الحالة، يصبح التشهير بمثابة ممارسة لمهمة ذات منفعة عامة، يستحق التنويه لا المعاقبة. وهذا ما سيتناوله هذا المقال على ضوء النصوص، ولكن أيضاً على ضوء الأحكام الصادرة عن محكمة المطبوعات في بيروت التي تنظر في غالبية الدعاوى المقدمة ضد وسائل الإعلام
نزار صاغية
لقد تبنّت محكمة المطبوعات في إحدى هيئاتها السابقة خلال سنوات (1999ــــ2001) اجتهادات ذات أهمية فائقة، وهي اجتهادات تبدو لمن يعاين أحكام اليوم وكأنها منسية تماماً. وبالطبع، يقتضي في هذا المجال تمييز القضايا التي تتصل بأمور ذات علاقة بالوظيفة العامة حيث ثمة قرينة قانونية على توافر المصلحة العامة وتالياً حسن النية في فضح الأخطاء المرتكبة (مادة 387 عقوبات)، عن القضايا التي تتصل بـ«أحد الناس» من خارج هذه الحالات حيث ثمة قرينة معاكسة بكون المسألة مسألة خاصة مجردة عن أي بعد اجتماعي، وهي قرينة رأت محكمة المطبوعات في بعض الاجتهادات التي نبيّنها أدناه أنها قابلة للدحض.
الذمّ الذي يطال شخصاً قيّماً على وظيفة عامة في أمر ذي علاقة بها (من حكم «شاهي برصوميان ضد النهار» إلى حكم «الحق العام ضد أدونيس عكرة»)
أهم الدعاوى في هذا المضمار، هي الدعوى التي قدمها الوزير السابق شاهي برصوميان ضد «النهار»، على خلفية نشر أخبار فساد متصلة بالرواسب النفطية. فرداً على هذا الادعاء، طلبت الصحيفة وقف التعقبات بحقها على أساس المادة 387 عقوبات التي تبرئ من ارتكب ذمّاً بحق قيّم على وظيفة عامة (ما عدا رئيس الجمهورية) في شأن له علاقة بها، إذا أثبت صحة موضوعه. وسرعان ما وجدت المحكمة نفسها مضطرة بنتيجة المنازعة في صحة الوقائع المنشورة على الإجابة عن التساؤلات الآتية: «ما هي الأدلة المطلوبة لتبرير الذم؟ فهل يقتضي أن تأتي الصحيفة بالدليل الحاسم والقاطع (وهو أمر غير متوافر في القضية المذكورة)، أم أنه يكفي أن تبين أن لديها معطيات متينة وجدية من شأنها توليد قناعة مشروعة لديها بأن الخبر صحيح؟». وبالطبع، السؤال بالغ الأهمية طالما أن الصحف قلما تكون قادرة على حيازة إثباتات حاسمة وأن وجهة الجواب تؤثر مباشرة على مدى الحرية الإعلامية في هذا المجال. وقد جاء الحكم الصادر في 25/1/1999 في الاتجاه الثاني بحيث يقتضي تبرير الصحيفة «إذا استندت إلى معطيات متينة وجدية من شأنها توليد قناعة مشروعة لديها بأنه صحيح وتوخت بالفعل من نشر الخبر المشكو منه، إثبات وقائع تهم المجتمع، ويقتضي إطلاعه عليها، اعتقاداً منها بصحتها، على أساس من التثبت والتحري الواجبين»، حتى ولو «لم تتمكن في المطلق من الإتيان بالدليل الجازم والحاسم لإثبات ما تدلي به». وقد رأت أن تفسير النص القانوني (المادة 387) على هذا الوجه أمر تفرضه القاعدة التي توجب عند غموض النص اعتماد التفسير الذي يكون أرحم للمدعى عليه.
وأهم من الحيثية المذكورة، هي وسائل الإثبات المعتمدة. فقد رأت المحكمة «أن الإثبات حر في القضايا الجزائية، وهو مبني على نظام الأدلة الاقتناعية، بحيث لا يقيد القاضي بمقاييس وأدلة موضوعية... بل يتوسل كل طرق الإثبات للنفاذ إلى الحقيقة». وانطلاقاً من ذلك، رفضت المحكمة الأخذ بالقوة الثبوتية للتقارير الرسمية الصادرة عن موظفين رسميين، وهي مؤيدة للوزير برصوميان. كما لم تكتف بمعاينة الوثائق التي أبرزتها الصحيفة، بل استدعت، بناءً على طلب هذه الأخيرة، موظفين للإدلاء بشهاداتهم، على نحو يعكس التزاماً عميقاً بحق الدفاع ودوراً فاعلاً في التقصي عن «أسباب التبرير» التي هي في القضية تلك «فضائح فساد». وقد أرست المحكمة، تبعاً لذلك، أسساً من شأنها ليس فقط أن تسمح للإعلام بممارسة دور فاعل في نقد أخطاء الإدارات العامة بمنأى عن الملاحقة، بل أيضاً أن تحقق تكاملاً بين القضاء والإعلام في اتجاه جلاء الحقائق بهذا الشأن.
وللأسف، بقي هذا الحكم، الذي استفاد ربما من أجواء خطاب القسم للعهد المستجد آنذاك، معزولاً، أقله من حيث النتيجة التي وصل إليها. وهذا ما نتبينه في الأحكام الصادرة عن المحكمة نفسها في هيئاتها اللاحقة (ابتداءً من نهاية 2002)، سواء لجهة تجاهل المادة 387 عقوبات أو لجهة اكتفاء المحكمة بما لدى المدعى عليه من مستندات دون التوسع في التحقيق بشأن صحة أفعال الذم، أو أيضاً لجهة تعطيل القاعدة المذكورة عن طريق الإيحاء بأن الذم موضوع الملاحقة لا يقتصر على شخص معين (موظف) بل يمثّل مساً بهيبة مؤسسة عامة، مما يجعله أمراً مكروهاً اجتماعياً بمعزل عن صحته. وللأسف، فإن بعض المراجع الرسمية والقضائية عززت هذا الاتجاه. وهذا ما نقرأه مثلاً في بيانات مجلس القضاء الأعلى الرافضة لأي تعرّض إعلامي للقضاء بمعزل عن صحته أو أيضاً التصريحات الرافضة للتطاول (!) على هذا المرجع الديني أو الأمني، وما إلى ذلك من مراجع.
ولعل أبرز الأمثلة الحديثة دلالة في هذا المجال، هو الحكم الصادر بحق أدونيس عكرة بتاريخ 2/11/2009 والآيل إلى تغريمه عشرة ملايين ليرة لبنانية وتالياً إبقاء كتابه (حين أصبح اسمي 16) ممنوعاً. فبعدما أدانت المحكمة الكاتب على أساس تعرّضه للجيش (تشبيه عملية التوقيف بعملية الخطف إلخ..) والقضاء (هل يزجني تفكيري في السجن؟ لم أكن أعرف أن القضاء في لبنان يشق قلوب الناس ليحاكمهم على مكنوناتها... وعدّ القرار الاتهامي بأنه اعتداء على حرمات الناس وكراماتهم وسمعتهم.. رائحة الخمور تعف من هذا البيان ولا بد أن كاتبه في حالة غير لائقة بالوظيفة التي يحتلها.. الكفالة التي دفعت هي بمثابة فدية..)، ذهبت أبعد من ذلك، في سابقة فريدة من نوعها، في اتجاه معاقبة التعرض للسلطة السياسية، بغياب أي نص قانوني يجيز ذلك. وما يفاقم خطورة هذه السابقة هي العبارات التي عدتها المحكمة مسّاً بهذه السلطة والتي هي في غالبها انتقادات عامة، من شأن معاقبتها أن تتهدد أي نقد سياسي فيه شيء من القسوة. وهذا ما يتأكد عند الإمعان في العبارات الآتية: (أن العديد من أصحاب السلطة في لبنان وصلوا إلى درجة من السقوط الأخلاقي والانهيار السياسي.. أن مؤسسات الدولة الدستورية توجهها أجهزة أشباح استخباراتية.. تتجسس على الوزراء.. الأساليب البوليسية ترسم صورة واضحة لذهنية الاستيلاء على السلطة.. استخدام الجنود لكيل الشتائم هو مشابه لتصرف النازيين في فرنسا والإسرائيلي في فلسطين المحتلة). وما يزيد الأمر قابلية للنقد هو أنه في موازاة تعظيم المحكمة من شأن الإساءة «الكلامية» إلى السلطات العامة، فإنها تجاهلت تماماً الإساءات المرتكبة من السلطة، التي ثمة إجماع على كونها من أبشع المظالم الحاصلة آنذاك، بحق الكاتب الذي دفع من جرائها ثمناً باهظاً من حريته وكرامته وحقوقه الأساسية. وكأنما المحكمة تجتهد لحماية السلطة، وهي القوية المتنفذة، ضد أي إساءة مهما قل شأنها، بل ضد أي موقف اعتراضي، فيما تتبرأ من أي مسؤولية في حماية المواطن، الذي هو بأمسّ الحاجة إلى حماية القضاء، ضد إساءات السلطة، حتى ولو بلغت مستوى عالياً من الظلم والبشاعة. ولا يحتاج المرء لكثير من المعرفة القانونية ليتبين أن من شأن مقاربة مشابهة أن تقوّض حق النقد والتشهير حتى في الحالات التي يبلغ فيها واجب التشهير مستوى عالياً جداً. واللافت أن المحكمة اكتفت بإدانة الكاتب على هذه الأسس، فيما غضت النظر تماماً عن التهمة التي وجهها الادعاء العام للسيد عكرة بشأن تعكير صفو علاقة لبنان مع دول أجنبية أو بث أخبار كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة (وهي تهم هدفت بالدرجة الأولى إلى حماية الوصاية السورية بوجه أي نقد أو تجريح)، وكأنها بذلك تعلن أن القيم المراد حمايتها هي فقط قيم «السلطة» بمعناها الواسع، والتي تخضع للتحولات تبعاً لتبدل السلطات الحاكمة.
الذمّ الذي لا يتّصل بوظيفة عامة (حكم شركة سبارتن الكيماوية ش.م.م ضد سميح سويدان وحكم عبد الكريم الخليل ضد NBN)
أما القاعدة الثانية الهامة في هذا المضمار، فقد استخرجها الاجتهاد بخصوص الذم بأحد الناس من خارج الحالات المذكورة أعلاه (أي إذا لم يكن قيّماً على وظيفة عامة أو لم يكن الذم ذا علاقة بالوظيفة). ففيما نص قانون العقوبات على معاقبة الذم بأحد الناس دون جواز إثبات صحة الأفعال موضوعه على أساس قرينة مفادها أن فضح الأفعال المعنية يمس بخصوصيات الناس دون أن يكون هنالك أي مصلحة عامة تبرره، أبدت محكمة المطبوعات استعداداً، أقله مبدئياً، لنقض هذه القرينة في قضايا بدت فيها اعتبارات المصلحة العامة جلية. وهذا ما عبّرت عنه المحكمة في معرض دعوى قدمتها شركة كبرى بوجه نقابيّ من أجرائها، وذلك على خلفية نشره بياناً يتناول المخالفات المرتكبة من إدارة الشركة بحق الأجراء فيها، أبرزها صرفهم وعدم تسديد أجورهم. فإذا كان ذلك صحيحاً، ألا تمثّل المخالفات تلك تعرضاً لحقوق اجتماعية لفئة واسعة من الناس وتعسفاً في استعمال القوة الاقتصادية؟ وأليس هنالك مصلحة اجتماعية في فضحها، على نحو يبرر تغليبها على اعتبارات الشركة أو سمعتها التجارية؟ وعلى خلفية هذا التساؤل، أجابت محكمة المطبوعات، بأن جرم الذم لا يكون متوافراً إلا إذا ثبتت «النية الجرمية» لدى الفاعل، وبأنه لا يكون كذلك في حال «وجود وقائع وظروف ذات طبيعة ونوع وقيمة مميزة وأسباب وجيهة وصالحة من شأنها أن تحمل على التسليم بوجوب التضحية باعتبار الغير وشرفه وكرامته من أجل نشر الخبر المتضمن للذم، كما تحمل على التسليم بأن الذم كان ضرورياً ومفروضاً بحكم تلك الظروف والأسباب الوجيهة الاستثنائية والمميزة» (16 أيار 2001)، لتخلص في الدعوى المذكورة إلى الإدانة بحجة أن الوقائع موضوع الذم لم تثبت صحتها.

أرست المحكمة في قضية برصوميان أسساً تسمح للإعلام بممارسة دور فاعل في نقد أخطاء الإدارات العامة

ألم يحن الوقت للتفكير جدياً في وجوب إخراج «النقد غير المباح» من حيز العقوبات الجزائية؟

والحيثية نفسها نقرأها في دعوى ثانية لا تقل أهمية في الظروف اللبنانية، وهي دعوى تقدم بها شخص ضد تلفزيون NBN على خلفية بث شريط ورد فيه اسمه كمشارك في مجزرة بلدة معركة إبان الاحتلال الإسرائيلي. وعلى أساس هذه الحيثية، سعت المحكمة هنا أيضاً إلى الموازنة بين المصلحة العامة واعتبارات المدعي وكرامته. وهكذا، وبعدما أعلنت صراحة «موجب التذكر» وأن من حق التلفزيون وواجبه كوسيلة إعلام رائدة أن يغطي ذكرى هذا الحدث الوطني المفجع (وهو إعلان فريد من نوعه في النظام اللبناني ما بعد الحرب)، انتهت إلى الإدانة بحجة أن إقحام اسم الشخص المذكور في الدعوى لم يكن ضرورياً أو مفروضاً لتحقيق ذلك على ضوء ظروف القضية (19 نوفمبر 2001).
وبنتيجة ذلك، بيّنت المحكمة أنه، على غرار المادة 387، ثمة حالات خارج إطار الوظيفة العامة، يكون فيها الذم مندوباً ومرغوباً، بل واجباً لارتباطه بمصلحة عامة، بحيث يثبت أن نية الفاعل انصرفت بالدرجة الأولى إلى حماية هذه المصلحة، لا إلى الإضرار بالمذموم به، حتى ولو استبعدت ذلك في ظروف القضيتين المعروضتين عليها. ومن الطبيعي أن يؤول هذا التوجه، أقله نظرياً، إلى تعزيز دور محكمة المطبوعات في تحديد المصالح العامة الجديرة بالحماية ومعها الحرية الإعلامية. والمؤسف هنا أيضاً أن هذه الحيثية، التي بقيت بأية حال مبدئية في القضيتين المذكورتين هنا، لم تلق أي صدى في أي من الأحكام الصادرة بعد 2001، فبدت المعاقبة فيها كأنها نتيجة تلقائية للفعل المادي المتمثل بالذم، دون أن يكون للمحكمة أي سلطة تقديرية للتقصي عن نوايا الفاعل أو عن مدى توافر ضرورات اجتماعية تبرر فعله.
وختاماً، وبمعزل عما هو مباح أو غير مباح، تجدر الإشارة إلى بعض الأحكام الصادرة وجاهياً حديثاً والآيلة إلى فرض عقوبات حبس (ثلاثة أشهر) في جرائم المطبوعات (مثلاً، حكم 12/10/2009 باسيل ضد المقهور والحسيني، وحكم 19/10/2009 شكري صادر ضد غادة عيد ورفاقها). فهذه الأحكام، التي تخالف عرفاً قضائياً راسخاً منذ سنوات طويلة قوامه استبعاد أي عقوبات مقيدة للحرية في هذا المضمار، تمثّل سبباً موجباً إضافياً لإعادة النظر ليس فقط بشأن حدود النقد المباح، بل أيضاً، بعواقبه. ألم يحن الوقت للتفكير جدياً في وجوب إخراج «النقد غير المباح» من حيز العقوبات الجزائية التي تنتهي بالتجريم والحبس إلى حيز المخالفات المدنية التي تنتهي بتعويض من تكبد ضرراً من جرائها؟ لمن يرى الاقتراح سابقاً لأوانه، حسبه أن يراجع المناقشات النيابية في أواخر الستينيات ــــ بداية السبعينيات حين دأب المجلس إلى إصدار قانون «عفو عام» عن جرائم المطبوعات بوتيرة شبه سنوية، وكأنه يمهد وفقاً لبعض أعضائه لهذا التحول.