يحفل المجتمع بأفكار مسبقة كثيرة عن الصحافيين. ثمّة من يراهم مجموعة مرتشين يكتب السياسيون باسمهم، وثمّة من يستغبيهم تماماً. وهناك دائماً من يعتقد أن الصحافي يعرف كل شيء. تأقلُم الصحافي مع مجتمعه طبيعي، لكنّ العلاقة المباشرة مع سياسيّي هذا المجتمع تجعل الأمور صعبة في حالات كثيرة
غسان سعود
بعد سؤالين محرجين، انسحب السياسي الذي كنت ألتقيه للمرة الأولى، إلى غرفة جانبية في شقته الفخمة المطلة على كورنيش الروشة، ليعود بعد دقيقتين بابتسامة غريبة، حاملاً في يده كدسة خضراء من فئة المئة دولار، ليضعها على الطاولة بالقرب من دفتري، مردّداً من دون أن يرفّ له جفن: اكتب ما تراه مناسباً، فمن الواضح أنك تعرف تفاصيل القضية جيداً.
كانت تلك المحاولة الأولى لـ«مساعدتي». ثقلت الثواني جداً، تصرفت كأن شيئاً لم يحصل، محاولاً إكمال المقابلة من حيث انقطعت. لكنه اقترب ليحاول وضع الأوراق النقدية الخضراء في يدي، فجفلت وابتعدت إلى الخلف. لكنه واصل ضغطه، مبدياً الإعجاب بقلمي، وشعوره بأنه بمثابة والدي، ويودّ لو أني أشتري لنفسي هدية. وراحت يده تطارد جيبي حتى وصلت إلى باب المنزل. فتحته وغادرت.
بعد دقائق، اتصل السياسي المغترب متمنّياً عدم إعلامي أحداً بما حصل، مؤكداً تقديره «نظافتي». ذاك السياسي كان يحاول شرائي بسبعمئة دولار عدّاً ونقداً.
لاحقاً، تتالت التجارب، ونضجت عشية الانتخابات النيابية الأخيرة: أحد المرشحين يقترح صيغة تعاون: «مرِّرْ اسمي أسبوعياً في زاوية علم وخبر لقاء مئتي دولار شهرياً». مرشح آخر يستغرب إصراري على وضعه إعلاناً انتخابياً رسمياً «تستفيد منه الصحيفة لا أنا»، مقترحاً كتابتي عنه بإيجابية مقابل حصولي بسرّية على ثمن الإعلان و«حبّة مسك».
ولمزيد من الغرابة، يُعجب أحد المرشحين (صار وزيراً في ما بعد) بتحقيق ذُكِر فيه، فيرسل من دون استئذان خمسمئة دولار، يتبيّن بعد الضغط على أحد المقرّبين منه لإرجاعها لصاحبها مع الشكر، أن المبلغ كان في الأصل ألف دولار، لكنّ المقرّب اقتطع «عمولة لخدماته 50%».
ففي الرشوة، هناك دائماً وسطاء يسعون وراء «خير الصحافي»: بعضهم مستفيق متأخّر على قرابة عائلية، يظهر فجأة في صالون المنزل، طالباً اهتمامي بأحدهم «فيفتحها الله بوجهنا نحن الاثنين». بعضهم موظفون لدى السياسي نفسه، ينهون أكل الكبة النية في مطعم السلطان ابراهيم بسرعة، ليبدأوا الكلام «في الأعمال»، عارضين أفضال السلطان عليهم، تحفيزاً وترغيباً.
أما الأسوأ، فهم أبناء المهنة المفترضون. أحد هؤلاء، وهو يعمل في صحيفة زميلة، يتقن اصطياد السياسيين والصحافيين، ولا يتردد في القفز من صحافي إلى آخر، مقتنصاً الفرصة المناسبة. فما إن يسمع أن أحد أقرباء الصحافي مريض مثلاً، حتى يحضر عارضاً خدمات أحد الوزراء.
وللرشوة أشكال وأنواع: ينهي الصحافي إجازة في أحد فنادق إهدن، فيكتشف أن مسؤولاً حزبياً دفع ثمن إقامته وحبيبته. يذهب في مطلع الشهر ليسدد قسط قرض السيارة، فيعلمه موظف المصرف بأن أحدهم سدد القرض. ثمّ يستنفر صاحب إحدى الجمعيات ليتابع الصحافي دراسته.

أحد المرشحين يقترح صيغة تعاون: «مرِّرْ اسمي أسبوعياً في زاوية علم وخبر لقاء مئتي دولار شهرياً»

لدى رفض الصحافي «المساعدة»، يغضب السياسي عادةً، معتبراً أنّ الصحافي «يغلّي سعره»
ولدى رفض الصحافي «المساعدة»، يغضب السياسي عادةً معتبراً أنّ الصحافي «يغلّي سعره». فبعدما يُعرَض عليه ظرف، يتمّ اللجوء إلى هدايا الأعياد، ثم قد يُعرَض عليه العمل مستشاراً إعلامياً، يتبيّن لاحقاً أن المهمة الوحيدة لهذا المستشار هي نشر أخبار سعادته في الصحيفة التي يعمل فيها. وهناك من يلتف بذكاء مفترض على الرشوة المباشرة، فيعرض على الصحافي أن يكتب مقالاً في نشرته لقاء ضعف راتبه في صحيفته.
آخر مواجهة مع أصحاب هذه الذهنية، كانت في مستشفى مار يوسف ـــــ الجديدة ـــــ البوشرية ـــــ السد، حين قصدت طبيباً ـــــ صديقاً مفترضاً للحصول منه على ورقة. الطبيب انشغل بعرض معلوماته العامة عن أثمان الصحافيين أمام زملائه، مؤكداً عدم وجود صحافي في لبنان «لا يقبض». بداية، حاولت الطلب من الطبيب أن يجرّبني، فيقدّم معلومة مفيدة ويرى كيف ستنشر على الصفحة الأولى من دون أي مقابل. لكنه تجاهل الاقتراح، متابعاً كلامه: أنا أتفهم صعوبة الوضع الاقتصادي، واضطرارك إلى القبض.
هكذا تصبح الافتراضات ثوابت، ولا يعود النقاش ممكناً، فيرى الصحافي مهنته تتحوّل أمام عينيه إلى شيء بشع، ثقيل ورخيص.
ما يريده الصحافيّون
يبدو واضحاً في الكثير من الحالات أن سياسيين كثراً لا يتفهّمون أولويات الصحافي، فيعتقدون غالباً أن سعيه وراء المعلومة هدفه ابتزازهم فقط. وهناك سياسيون كثر لا يقيمون لأنفسهم وزناً أو لمعلوماتهم اعتباراً، فيقدمون للصحافي مجموعة معلومات قد يقتل نفسه ليحصل عليها، ثم يحاولون بكل غباء رشوته مادياً لينشر هذه المعلومات.
هذا جانب بشع في المهنة، يوازيه في البشاعة السياسي الذي يستغبي الصحافي، أو يعتقده عاشقاً لرؤيته. فبعض السياسيين يعطون أكثر من موعد لمجموعة من الصحافيين في الصحيفة ذاتها لإعطائهم المعلومة نفسها. والبعض يتصل بالصحافي «طابلاً الدنيا» ليحضر بسرعة إليه، ويتبيّن في النهاية أن الخبر تافه، لا معنى له ولا قيمة. وهناك دائماً سياسيون يعتقدون أن العالم يدور من حولهم، وأن تصريحهم أهمّ ما قيل منذ نشأة اللغة، فيقتلون وقت الصحافي بكلام لا معنى له. هؤلاء أيضاً يبهتون المهنة، لتصبح مملّة.
في المقابل، هناك سياسيون يعرفون كيف يستقطبون الصحافيين، يحرصون على إنشاء علاقة شخصية مع الصحافي، يعاتبون بلطف حين يستفزّهم مقال، ويهنّئون بصدق حين يعجبهم تقرير، إضافة إلى تزويدهم الصحافيين بمعلومات جديدة كلما استجدّ حدث.

صحافة «هزّ الخصر»

في بلاد لا شفافية فيها، يضطرّ الصحافيّ إلى البحث في دفاتر السياسيّين للحصول على المعلومات.
كيف يفعل ذلك من دون الارتهان أو التحوّل إلى صندوق بريد يمرّر السياسي عبره ما يريد؟
إنّها لعبة صعبة تضطرّ الصحافيّ يوميّاً إلى الرقص بين الكلمات، وبين التناقضات، وبين مجموعة كبيرة من السياسيين يدقّق في معلومة الأوّل من دون السقوط في فخ الآخر.
وكأنّ هذا التمرين اليومي لا يكفي، حتّى يصرّ السياسيّ على اعتبارك راقصة من الدرجة العاشرة، يكفي التلويح أمامها برزمة من الأوراق النقدية حتّى تبدأ بهزّ خصرها. كثيرون يرفضون الدخول في هذه اللعبة. لكنّ المؤلم حقّاً أنّ السياسيين لا يتحمّلون وحدهم المسؤوليّة، فالكثير من الصحافيّين امتهنوا «هزّ الخصر».