قرّاء الصحف إلى تراجع في العالم. لكنّهم، في لبنان، يتراجعون بحدّة منذ نشوب الحرب الأهليّة. في الجامعات، ثمّة أزمة ثقة تصل إلى حدود القطيعة بين الصحف والطلاب. حتّى المهتمّون بالسياسة بينهم، باتوا يبحثون عن طلبهم في وسائط إعلاميّة أخرى
أحمد محسن
تجهّم وجه محمد، صاحب إحدى المكتبات قرب مجمع الحدث الجامعي، كأنه تلقى صفعة قوية. فاجأه السؤال عن الصحف التي يطلبها جيرانه الطلاب. أوضح لاحقاً أنه اعتقد بادئ الأمر، أن إجابته ستسجل في محضر أمني. لا أحد يسأل عن أمور كهذه عادةً. قلائل هم الطلاب الذين يقرأون الصحف، يقول. الطلب على الجريدة في انحسار مستمر، وهو يفكّر جدياً في التخلي عن مشقة بيعها. فهي لا تدرّ ربحاً ومهمته «ليست تثقيف الناس».
داخل الجامعة، تبدو معلومات صاحب المكتبة دقيقة، إذ يصعب على ضيف الجامعة أن يلحظ صحيفة تقفز بين يدي أحد الطلاب. لا تختلف الصورة في الجامعات الخاصة. في اليسوعية مثلاً، تستكين الصحف اليومية في المكتبة، بحراسة الزوار المعروفين. عملياً، يكون الجميع منكباً على الإنترنت، ويطّلعون على الأحداث المتلاحقة، وخاصةً الأمنية منها.
يبرر شربل ذلك بكثرة المواقع الإلكترونية الإخبارية. هو أحد الذين يستندون إلى موقع التيار الوطني الحر، ويتصفحونه دورياً، للحصول على المعلومات التي تناسبهم. يحاول أن يعلل وجهة نظره، فيؤكد أن الموقع «يناسب خياراته السياسية ولا ينقل إلا ما يحتاج إليه». وكي يثني على دور الموقع الحزبي إلكترونياً، يعترف شربل بأن موقع القوات «قوي وله زواره والحرب دائرة بيننا وبينهم». إذاً، وفي ضوء معطيات شربل، الإعلام ساحة حرب، والصحف، على اختلاف توجهاتها السياسية، محايدة في صراعه الخاص، أو على الأقل ليست في صلب المواجهة.
المواقع الحزبية قلّما تنقل أخباراً غير سياسية، وهي أخبار لا يرغب بها أصلاً الطالب اللبناني المسيّس. يخلص الباحث عن قرّاء في اليسوعية، إلى أن المصدر الأم للحصول على الخبر، هو المصدر الحزبي.

مشجّعو كرة القدم يختارون فرقهم سياسيّاً، فما بالك بالقرّاء؟
تهتز صورة المصدر الإلكتروني في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ــــ الفرع الأول، حيث لا مكان للاتصال بالشبكة العنكبوتية... أو حتى لبيع الصحف. زينب، طالبة علم النفس، لا ترى حاجة لذلك: «التلفزيون ينقل كل شيء»، وهي مشتركة في خدمة الخبر السريع. تتباهى بذلك، لكنّها تشتكي من طريقة تحرير الأخبار التي تصلها أحياناً. زينب تقرأ للاطّلاع على أخبار فريقها السياسي، كي تطمئنّ إلى توجّهاتها، ولا نية لديها لبلورة أي تصور آخر، لا بل ترى أنّ الصحافة «ربما تلعب بعقلها».
الصدمة الحقيقية ربما تكون في كلية الإعلام بفرعيها الأول والثاني، أي الكليّتين اللتين تدرّسان الصحافة. في الفنار، كانوا يجدون صحيفة «الدبور» الأسبوعية في الكافيتريا، فيقرأونها. كانت جريدة تركز على التعليقات الساخرة وغير اليومية. الوضع لا يختلف كثيراً في الفرع الأوّل حيث لا تباع الصحف داخل حرم «الأونيسكو». على الطلاب أن يحضروها معهم، على الأرجح من البائعيَن اللذين يفرشان بضاعتهما على مقربة من تمثال حبيب أبي شهلا، قرب وزارة التربية والتعليم العالي.
ربما يكون التعليم في كلية الإعلام عالياً، لكن نسبة متابعة الصحف في الكلية ليست عالية أبداً. أغلب الطلاب (ممن التقتهم «الأخبار») يميلون إلى «الراديو تي في». وليس في الأمر مفارقة بالنسبة لهؤلاء، إذ «إن قراءة الصحف مطلوبة، لكنها ليست أولوية».

الوجه الآخر للأزمة

تراجع اهتمام الطلاب بالصحف لا ينفي الوجه الآخر من الأزمة، أي مضمون الصحف نفسه، العاجز عن مخاطبة الطلاب المهتمّين. فثمة طلاب مثابرون على قراءة الصحف. وبما أنهم كذلك، لم يفتهم تسجيل بعض الملاحظات. دارين، مثلاً، كانت تواظب على قراءة مقالات الشهيد سمير قصير. لم تنقطع طالبة العلوم السياسية في كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية، عن متابعة افتتاحيات أستاذها، إلا بعد توقف اسمه عن الظهور على صفحات «النهار». لا يعني ذلك أنها لم تكن تلتهم الصحيفة كاملةً، رغم حجمها الكبير. لكن كلمات قصير كانت شغفها الحقيقي. مثّل اغتياله صدمة لها، كقارئة بالدرجة الأولى. ولم يثنها الحدث المؤلم عن العودة إلى صفحات «النهار»، وتحديداً في اليوم التالي الذي تلى استشهاد كاتبها المفضل. أرادت أن ترى صورة الصحيفة بلا سمير قصير. وجدتها صورة تراجيدية. اختفى توقيع الرجل الذي جذبتها ثوابته الاستقلالية، وشذب ميولها اليمينية المتطرفة، ليضيف إليها «تعاطفاً إنسانياً مع القضية الفلسطينية». تذكر هنا مقالاً لقصير بعنوان «على أبواب القدس». تشد شفتيها في محاولة لثني نفسها عن اعتراف ما، ثم تضيف أنها لم تكن تفهم في بداية الأمر ما يعنيه أن قصير «كان عرفاتياً». هكذا كان يحاول أصدقاء لها، أشدّ تطرفاً في القوات، إقناعها بضرورة الإقلاع عن قراءة سمير قصير. نصحوها بكتّاب آخرين ما زالوا يكتبون حتى الآن، ولكنهم برأي دارين «متقلبون وغير مبدئيين». وهنا بيت القصيد، إذ ينسحب رأي دارين بصحافيّي اليوم، على مجموعة من زملائها الذين فقدوا الثقة بالصحف وكتّابها. ليلى إحدى هؤلاء. تعلن أن «النهار» غادرت يومياتها، تزامناً مع مغادرة «آخر صوت فلسطيني فيها»، قاصدةً الروائي إلياس خوري. وجدت في صحف أخرى ما تبحث عنه. ابتعدت قليلاً عن الصفحات السياسية، وركزت على المحليات العادية «لأنها سياسية هي الأخرى». توضح أن الأكثرية في اليسوعية يقرأون «النهار»، وخاصةً القواتيّين، لأنهم «يجدون فيها ضالتهم الآذارية، التي لا يجدونها في صحف أخرى». وإلى دارين القواتية، يتحدث ربيع الشيوعي، طالب الحقوق في الجامعة اللبنانية، عن افتقاده كاتباً آخر. تقلصت حماسة ربيع للقراءة بعد رحيل جوزيف سماحة. لا يجد طالب السنة الأخيرة مبالغةً في القول إن «سماحة كان يغنيه عن قراءة بقية الصفحات». وفجأة اختفى تاركاً لربيع، وقراء كثر، حملاً ثقيلاً يتمحور في مزيد من البحث حول الخبر وأبعاده، وهو ما كان سماحة يوفّره عليهم سابقاً.
رامي، طالب العلوم الاجتماعية في الجامعة العربية، لا يتردد في موافقة ربيع، وهو لا يشتري صحيفة واحدة يومياً. يصف نفسه بالقارئ النهم. ورغم خياراته السياسية «الأقرب إلى توجهات النهار»، كان يواظب على متابعة جوزيف سماحة في «الأخبار»، وعباس بيضون في «السفير»، إضافة إلى كتاب آخرين. لكن بعد الضربات المتتالية للصحافة اللبنانية ــــ استشهاد قصير، وفاة سماحة، وإقلاع بيضون عن الكتابة السياسية ــــ وبعد الانقسام السياسي الحاد، أصبحت علاقته كطالب بالصحف «متوترة»، إذ باتت الكتابات التي تتخطّى الخطاب التحزّبي، نادرة.

مشجّعو كرة قدم

عاد التصنيف السياسي الضيّق ليواكب الصحافة والصحافيين. برأي رامي، القارئ العادي مضطر إلى الخضوع للتصنيف «الشعبوي». «مشجعو كرة القدم يختارون فرقهم سياسياً، فما بالك بالقراء؟» يسأل الطالب بجدية.
تبدو آراء رامي منطقية في باحات مجمع الحدث الجامعي. هناك، تطغى أكثرية موالية لحزب الله وحركة أمل. لا يخفى ذلك على أحد. مجدداً، لفت صاحب إحدى المكتبات القريبة، أن «الديار» كانت الأكثر مبيعاً، قبل ثلاث سنوات تقريباً. أما اليوم، فلم تعد مطلوبة كثيراً. ويعكس ذلك طبعاً مزاج الطلاب وقراءتهم السياسية للصحيفة. في «العربية»، تبدو الأمور أسهل بكثير. تباع الصحف للطلاب بنصف قيمتها، لكن بعض الصحف لم تدخل إلى العربية بعد، إذ يقتصر الأمر على «النهار» و«السفير» و«المستقبل». ووفقاً لما يقوله متابعون هناك، «السفير» تنفد باكراً، فيما تبقى أعداد لا بأس بها من «النهار». لكنّ الشباك المخصص لبيع الصحف داخل حرم مبنى الهندسة، لا يعد مقياساً لرغبة الطلاب. بعض المكتبات القريبة تبيع الصحف هي الأخرى، بيد أن أحداً من موظفيها لم يلحظ اهتماماً طالبياً حقيقياً بالصحف. إنهم «يركزون على القرطاسية وتصوير محاضراتهم». وفي الحديث عن «العربية»، لا بد من الإشارة إلى كشك «أم حسن» المواجه للبوابة الرئيسية. أغلب قراء الصحف كانوا من زوارها، قبل أن تختفي من كوخها الصغير نتيجة الشحن المذهبي المشؤوم.

طلاب من كلية الإعلام: قراءة الصحف مطلوبة، لكنها ليست أولوية
تبقى السياسة إذاً، رغم كل شيء، الجاذب الأول نحو قراءة الصحف. يهتم علاء بصفحات السياسة (رغم أنه لا يصدق أحداً)، ويمرّ أحياناً على صفحات الشباب، لمتابعة آخر أخبار الجامعات. لكنّه يشير إلى أن التلفزيون أخذ مكان الصحيفة، من وجدان الطلاب ومن وقتهم. يشاهد صحافيين عديدين على الشاشات، فيبدون مقنعين، إلا أنه عندما يحاول قراءتهم، يقع في فخ الالتباس. برأيه، الكاتب الحقيقي هو الذي لا يظهر على الشاشات «عالطالعة والنازلة».
يؤيده مروان من إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت. يشتري مروان صحيفته من أحد الأكشاك القريبة في شارع الحمراء. يطالعها بهدوء في حديقة الجامعة، بعيداً عن «قرف الإنترنت». يحب قرقعة الأوراق بين يديه. القراءة طقس مثل القهوة الصباحية، وصوت فيروز، والصحيفة لازمة ضرورية لاكتمال المشهد. يلاقيه حسين من الجامعة اللبنانية الأميركية في ذلك، من دون أن يبسّط الأمر. في جامعته، أغلب الطلاب لا يهتمون بالصحف. وفي مكتبة الجامعة، الصحف اليومية مهملة لحساب المجلات الفنية والمتخصصة بشؤون أخرى «غير حيوية». يضحك حسين عند سؤاله عن نسبة ترجيحية للقراء، فيقول ممازحاً: «لو سألتني عن عدد لاعبي الفارمفيل، لكان الأمر سهلاً». و»الفارمفيل» هي لعبة إلكترونية يجري الدخول إليها بواسطة حساب الفايسبوك. المقارنة بين زائري الفايسبوك ومواقع الصحف أمر غير وارد برأيه. بناءً على مشاهداته، ومداخلات بعض الزملاء، لا جدوى قراءة الصحف، ما دام كل شيء متوافراً في الأماكن الأخرى. «الفايسبوك» للّهو، والأحزاب السياسيّة ومواقعها لكلّ شيء آخر.


مواقع الأحزاب في الصدارة

يشير موقع www.alexa.com الإلكتروني إلى أن الموقع السياسي الأول لبنانياً هو موقع التيار الوطني الحر، علماً بأنه يأتي في المرتبة التاسعة، خلف المواقع العالمية الأخرى. ويليه موقع القوات اللبنانية الرسمي، الذي يحل في المركز الحادي عشر، بينما يرزح موقع حزب الكتائب في المركز الأربعين. ولم تبين الإحصاءات ظهور أي مواقع أخرى لأحزاب ذات ثقل وحضور في الشارع اللبناني، كحزب الله، أو تيار المستقبل. وفي ما يخص الجرائد المحلية اليومية، ووفقاً للموقع المتخصص بإحصاء زوار الشبكة، فإن «الأخبار» تتصدر الصحف اللبنانية المقروءة على الإنترنت، إذ تحل في المركز السابع عشر محلياً، ويليها من الصحف «النهار» (المركز 25) و«السفير» (المركز 27).