strong>تركيا أوروبية ـ إسلامية ـ علمانية ـ رأسماليةقررت تركيا كيف تريد من العالم أن ينظر إليها في رقعة الشطرنج الكبرى. أتراك «العدالة والتنمية» لم يديروا وجوههم عن الحلم الأوروبي، لكن أولويات عديدة أضيفت إلى هذه الوجهة. الشرق والغرب هدفان لا يلغي أحدهما الآخر. «القوة الناعمة» عنوان الدبلوماسية المتعددة الأبعاد الرامية إلى تنصيب تركيا دولة محورية وقوة عظمى في نظام دولي جديد من دون استعجال

أرنست خوري
لا يضاهي تعقيد المجتمع التركي إلا تشعّب السياسة الخارجية التي يتّبعها حكّامه منذ 7 سنوات. كأنّ رجال «العدالة والتنمية»، بثلاثيهم المتناغم عبد الله غول ورجب طيب أردوغان وأحمد داوود أوغلو، أعادوا قراءة التاريخ والجغرافيا والمستقبل، واستعرضوا إمكانات بلادهم وخياراتها في السلوك الخارجي، متحرّرين من ضغط ظروف الحرب الباردة وضوابطها. رسا قرارهم أخيراً على وجهة تقطع مع استراتيجيات «أتراك الأمس» من ناحية التوقف عن وضع «كل البيض في سلة واحدة»، سلة الغرب وحلفه الأطلسي وقيادته الأميركية، من دون القطع مع هدف مركزي: العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي. الفارق أن العضوية الأوروبية، كما يفهمها ويريدها أتراك اليوم، لم تعد تعني إهمال العالم العربي وغير العربي، الإسلامي وغير الإسلامي، أكان فارسياً أم روسياً أو باكستانياً، وحتى العوالم الأفريقية والأميركية اللاتينية.
اكتشفت تركيا أخيراً أنّها ليست «دولة هامشية ممزقة تقع على أطراف الغرب والشرق». كذلك فهي ليست دولة طرف أو هامش أو جبهة، بل إنها قادرة على أن تكون دولة محورية. دولة إسلامية ذات هويات متعدّدة، تنتمي جغرافياً وتاريخياً وثقافياً في آن إلى الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى وبحر قزوين والبحر المتوسط والخليج والبحر الأسود، وأوروبا. من هنا وعيها إلى أن «العمق الاستراتيجي» يُترجَم فقط إذا ما اعتُمد مبدأ الدبلوماسية المتعدّدة الأبعاد. الهدف الاستراتيجي: استقرار المنطقة والعالم. التكتيك: «صفر أعداء» و«القوة الناعمة». الأداة العملية: إزالة جميع العداوات التاريخية مع الجيران وتبريد بؤر الأزمات الناشبة، حتى بعيداً عن الحدود، انطلاقاً من مصلحة تركية ومن وعي لأهمية استقرار الخارج على الأوضاع الداخلية الشديدة التأثر إسلامياً. ويندرج تفعيل منظمة المؤتمر الإسلامي والسعي لانتخاب تركي لأمانتها العامة في هذا السياق.
تركيا الجديدة متعدّدة الهويّات والأولويّات ودولة محور مستقلة عن المحاور وليست جسر عبور
وفي الرحلة الطويلة نحو الغاية الأخيرة، أي تركيا أوروبية ـــــ إسلامية ـــــ علمانية ـــــ رأسمالية ـــــ (نووية؟) قوية، تمارس أنقرة دورها كاملاً في نظام دولي جديد متعدّد الأقطاب. لا بأس من التعريج على مشاغبات مؤقّتة (مع إسرائيل)، واعتراضات لا تصل إلى حدّ الخلاف (مع الولايات المتحدة)، ومشادّات كلامية تنتهي بعقود المليارات (مع روسيا) وتحدّ و«كلمات كبيرة» (مع فرنسا وألمانيا) من نوع أن «لتركيا بديلاً إذا فشل الخيار الأوروبي، وهو العالم العربي ـــــ الإسلامي» (الموقف لأردوغان).
سلوك تطبيقي لنظريات داوود أوغلو، يهدف إلى القول إنّ تركيا تعرف كيف تبرّر بالأخلاق ما يخدم مصالحها، وإنّ «العثماني الجديد» يعرف كيف يتحالف من دون التحاق، ويستطيع أن يحافظ على «زواج من دون عواطف» (مصطلح رائج لتوصيف العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية على خلفية الأزمات الأخيرة بينهما).
كل ذلك لا يعني أنّ «عودة تركيا إلى الشرق» خطوة مؤقّتة. إنها عودة مصلحية سياسية اقتصادية استراتيجية تفرضها عوامل التاريخ والجغرافيا والمصالح والنفط. وعي متأخّر سبقهم إليه الرئيس باراك أوباما، الذي اقترح على حكام أنقرة «شراكة معزَّزة» للتعامل مع الأزمات الأمنية المعولمة في المنطقة، بينما تجاهل هذه الحقيقة 10 رؤساء أتراك سبقوا عبد الله غول إلى قصر شنقايا. حتى أوروبا اكتشفت القيمة المضافة لتركيا، وأتراك الأمس لم يفعلوا. قررت قمة الاتحاد الأوروبي في هلسنكي 1999 فتح باب مفاوضات العضوية الكاملة معها، وهو ما تحقق في 3 تشرين الأول 2005، على قاعدة أنّ تركيا نموذج يمكن تعميمه على العراق خصوصاً، وعلى العالم الإسلامي، وبهدف تقديم هذه الدولة بديلاً من نظرية «صدام الحضارات».
بديل سنحت له أحداث 11 أيلول 2001 (وقبلها انتهاء الحرب البادرة) أن يتحسّس إمكانياته بالتحول إلى دولة عظمى متعددة الأحزاب، علمانية حديثة وديموقراطية لمواطنين مسلمين مع سوق رأسمالية «حرة».
إلا أنّ أردوغان و«إخوانه» لم يكتفوا بهذا الدور «المتواضع». فتركيا (بالنسبة إليهم) هي «المركز الذي يقوم بأدوار، لا جسر العبور»، ومن هنا رفض داوود أوغلو، صاحب هذا التوصيف، نظرية تركيا «الجسر بين الغرب والشرق».
ألبس «الطيب» وزملاؤه بلادهم وجهاً «نصفه يتطلّع شرقاً ونصفه الآخر يلتفت غرباً». فمنذ 2002 قرّروا العودة إلى المنطقة بسياسة خارجية «علمانية»، عاملين على إبقاء استقرار الأنظمة القائمة من دون تدخل في شؤونها الداخلية، لأنّ «الابتعاد عن العالم العربي 50 عاماً، أوصل تركيا إلى ضعفها». بسرعة قياسية، بنوا صداقات تاريخية مع أعداء الأمس، سوريا والعراق وإيران تحديداً، ساعين إلى إرساء سياسة كردية رباعية موحّدة. كذلك صالحوا «نقيض الأتراك»، أي الأرمن وأكراد العراق، إضافة إلى ما سبق وتحقّق مع تطبيع العلاقات مع اليونان، وتقدّم (وإن ببطء) ملف جزيرة قبرص المقسَّمة. وداعاً إذاً لزمن اعترفت فيه تركيا بدولة إسرائيل بعد أشهر قليلة من تأسيسها، فقط لأنها قاعدة غربية متقدمة لمواجهة المدّ الشيوعي في المنطقة. وداعاً أيضاً لزمن شاركت فيه تركيا في الحرب الكورية للحصول على شرف العضوية في حلف شمالي الأطلسي أيام حكومة عدنان مندريس عام 1952.
أصبح أردوغان ورجاله قادرين على منع القوات الاحتلال الأميركية من استخدام قاعدة إنجرليك في طريق احتلالهم للعراق عام 2003 لأنّ «احتلال هذا البلد يضرّ بالمصلحة التركية». صورة معاكسة اعتادت أنقرة تقديمها لواشنطن حتى على حساب أمنها القومي؛ أزمة نشر الصواريخ في تركيا والغواصات النووية السوفياتية إلى كوبا مثالاً.
أصبح التركي قادراً على مواجهة الأميركيين والأطلسيين والإسرائيليين مع إبقاء التحالف معهم
أصبح أردوغان يسمح لنفسه أن يرفض دعوة أرييل شارون لزيارة الدولة العبرية في 2004، وأن يذكّر شمعون بيريز بأن الإسرائيليين «يعرفون جيداً كيف يقتلون». مثال معبّر آخر عن الاستقلالية التركية إزاء الغرب، اختصرته معركة انتخاب خليفة لياب دي هوب شيفر، وهو أندرس راسموسن على رأس حلف شمالي الأطلسي. أصبح التركي، العضو غير الدائم في مجلس الأمن، قادراً على ممانعة الأطلسيين والأميركيين والإسرائيليين عندما يلغي مناورات «نسر الأناضول» لتلافي تحليق المقاتلات الإسرائيلية في أجوائه. جميعها صور زيّنها حكام أنقرة بالإصرار على استمرار «التحالف الاستراتيجي» العسكري والأمني المبرم مع تل أبيب عام 1996، مع تقصّد للدفاع عن إيران نووية، «الصديق المميز لتركيا».
حتى إنّ هذه الفورة «الإنسانية» (كما يصفها داوود أوغلو) إزاء الفلسطينيين، لم تمثّل سبباً كافياً بالنسبة إلى حكام تركيا لإلغاء الصفقات العسكرية الهائلة مع تل أبيب، ولا دافعاً لإلغاء عمل عشرات الشركات الإسرائيلية في مشروع جنوب شرق الأناضول «الغاب».
ومن ينسى دعوة خالد مشعل رسمياً إلى أنقرة إثر فوز حركة «حماس» في انتخابات 2006، والاستمرار بالاعتراف بشعبيتها وحيثيتها، وإن كان من باب شبه وساطة مستمرة مع حركة «فتح»؟ ومن يقل وساطة، لا بد أن يقول تركيا بالضرورة؛ وساطة بين سوريا وإسرائيل، وباكستان وأفغانستان، وباكستان وإسرائيل، والهند وباكستان. مساع بين الأطراف الباكستانية الداخلية بعد عودة بنازير بوتو، وبين الأفرقاء اللبنانيين قبل اتفاق الدوحة، وبين الأطراف العراقيين منذ 2005، وعرض وساطة لا يزال مفتوحاً بين إيران والغرب، ومنتدى الأمن في القوقاز، و«مشروع منتدى الحوار بين الثقافات» (2007)، وعرض لإرسال قوات تركية إلى غزة على غرار مشاركتها في قوات «اليونيفيل»، من دون نسيان استعدادها لإرسال قوات إلى الصومال.
جميعها مبادرات لا تخرج عن سياق العمل على أولويات عديدة تسير بالتوازي، على جميع الجبهات، القريبة والبعيدة عن الحدود، ببساطة لأن تركيا «لا يمكن أن تجلس في المدرجات وتتفرج على اللعبة، بل يجب أن تكون لاعباً على أرض الملعب»، وفقاً لتعابير «الطيب»، لاعب كرة القدم قبل أن يتفرغ لصناعة مجد تركيا.
عندما تخلصت تركيا في 2002 من حكم عسكرها وأوروبيّيها، ومن رؤيتهم لدور بلادهم وموقعها، كان أمامها 4 حلول: إما الانطلاق في السياسة الخارجية من أن العلاقات التركية ـــــ الأوروبية هي المحور، وإما من محور أولوية العلاقات التركية ـــــ الأميركية. وإما أن تكون العلاقات التركية ـــــ الأوراسية هي الأساس، أو أخيراً أن تكون الدبلوماسية التركية مستقلة عن أي محور. استطاع استراتيجيّو أنقرة، يتقدّمهم «أحمد بك»، أن يقنعوا ساستها، وأوّلهم «الطيب»، بالسير بالخيار الأخير، لأنه «لا يمكن تركيا أن تبقى محصورة داخل الأناضول»، كما يحلو لعبد الله غول تكراره، وها هي تركيا تحصد النتائج.


تحالف واستقلاليّة: أفغانستان نموذجاًأضف أنّ الأتراك بنوا أكثر من 70 مدرسة في هذا البلد. أما شرطة العاصمة كابول، فيدرّب عناصرها 6000 شرطي تركي. هكذا تفهم أنقرة الحلّ غير العسكري في أفغانستان، وهو ما دفع القائد الأميركي لـ«إيساف»، ستانلي ماكريستال، للإعراب عن ضرورة أن تكون تركيا «في قلب قرار الاستراتيجية الجديدة».