نقيضان فرّقهما كل شيء... وجمعتهما المصالحأرنست خوري
كان طبيعياً أن يجد حكّام «العدالة والتنمية» أنفسهم، أقرب دينياً إلى ملالي إيران منهم إلى خلفاء أتاتورك، رغم وطأة «روح العصر»، أي الحساسيات الشيعية والسنية. في النهاية، يبقى السني المعتدل أقرب إلى العقل الإيراني الخميني منه إلى الجنرال العلماني الراديكالي. إلا أنّ هناك ما يتخطّى العامل الديني بالنسبة إلى حكّام أنقرة على الأقل: هناك نظرية مسيِّرة للسياسة الخارجية التركية، بطلها أحمد داوود أوغلو طبعاً، وكتبها في «العمق الاستراتيجي والمكانة الدولية لتركيا»، حرفيتها أنّ: «الدولة التي تجهد للتأثير من خلال حدودها عبر القوة الناعمة (أي الدبلوماسية)، هي الوحيدة التي تتمكن من حماية نفسها». وعن التكتيك المعتمَد طويلاً من جانب خلفاء أتاتورك إزاء الجوار التركي، يقول: «كانت تركيا كلاعب إقليمي، تتصرف كرجل يملك عضلات مفتولة، لكن مع معدة ضعيفة ومشاكل في القلب، ومع قدرات عقلية وضيعة. بكلام آخر، كان لديها جيش قوي واقتصاد هشّ ونقص في الثقة بالنفس، كان الأتراك يفكرون بعقل استراتيجي غير سليم». كلام لا تُقصَد به إدارة العلاقة مع إيران حصراً، لكن يمكن إسقاطه عليها.
وبعيداً عن الإطار النظري، تنبّه الأتراك لوجود عامل بديهي يحتّم حتى الدفاع عن البرنامج الإيراني النووي (السلمي): الاقتصاد عموماً (التبادل التجاري بين البلدين بحدود 9 مليارات دولار) والنفط خصوصاً، والغاز تحديداً. ومن أجل الغاز، والحاجة التركية المزمنة إلى الذهب الأسود الذي تهيمن روسيا على منابعه، تصبح معاكَسَة الرغبة الأميركية والأوروبية حتى، أمراً مشروعاً تماماً عند داوود أوغلو ورجب طيب أردوغان وعبد الله غول. ولم تنظر واشنطن ولا بروكسل بعين الرضى إلى الجهود التركية لإشراك إيران في مشروع أنابيب نابوكو، لكن السعي متواصل، وقد مثّلت زيارة أردوغان قبل أيام إلى طهران، خطوة متقدمة جداً على صعيد وصول النفط والغاز الإيرانيين إلى المصافي التركية من خلال مجموعة عقود جاءت لتتمّم اتفاقات عامَي 2002 و2007، بحيث يجب أن تبدأ الأنابيب الجديدة بضخ 40 مليار متر مكعب من الغاز الإيراني إلى تركيا بدءاً من عام 2010، على أن ينتهي العمل بمد هذه الأنابيب في 2013.
ورغم عدم وصول الثقة الإيرانية ـــــ التركية إلى مستوى الثقة التركية ـــــ السورية، فإنّ الهمّ الأمني عند رجال «العدالة والتنمية» لا يفارقهم ولو للحظة. فهؤلاء لا يجرؤون حتى على التفكير في كارثة توجيه ضربة عسكرية لإيران. عندها، تكون كل «مغامرتهم» التي ترجمتها سياساتهم الخارجية، تلقت ضربة قد تكون قاضية، بما أن الشرق الأوسط الذي تحاول تركيا بناءه على أسس الاستقرار والأمن والحفاظ على الأوضاع والأنظمة القائمة، قد تبخّر. فشبح الانهيار سيشمل سوريا وإسرائيل ولبنان وغزة والعراق. وماذا سيبقى حينها لتركيا؟ مجرد غبار حلم.
من هذا المنطلق، يمكن فهم الحماسة التركية في اقتراح تأدية وساطة في المفاوضات النووية بين الجمهورية الإسلامية والغرب، ممثلاً بمجموعة الدول الست. وإن لم تكن وساطة، فدور لتخفيف الاحتقان، مع الرهان على عامل الوقت الكافي لفتح أبواب التهدئة. وفي سبيل تبريد الخواطر الإيرانية، ولنيل حصّة من النفط الإيراني، لم يجد حكام أنقرة حرجاً في الرضوخ لرغبة محمود أحمدي نجاد (التي كانت تركيا أول دولة اعترفت به رئيساً منتخباً بعد استحقاق 6 حزيران الماضي) في خرق البروتوكول أثناء زيارته التركية الأولى في آب 2008. حينها، أصرّ على النزول في إسطنبول لا في أنقرة، بهدف تفادي المرور بقبر أتاتورك. سيناريو يُرجَّح أن يتكرر يوم الأحد المقبل حين سيحل مجدداً في إسطنبول ليومين، للمشاركة في قمة منظمة المؤتمر الإسلامي.
وبالحديث عن الزيارات، يحلو للبعض التوقف عند حركة الطائرات التركية الإيرانية الرسمية في هذه الأيام ووجهتها. حطّ أردوغان الأسبوع الماضي في طهران. وقبلها بأيام، جدّد عرض بلاده تأدية دور بين واشنطن والعاصمة الإيرانية. وعشية وصوله إلى طهران، كشف عن تلقّيه دعوة من باراك أوباما. كان يجب أن يخرق الحظر الأميركي على الطائرات الآتية من طهران، وأن ينتقل مباشرةً إلى العاصمة الأميركية في 29 من الشهر الماضي. تغيّر الموعد ليصبح 7 تشرين الثاني الجاري، أي بعد يومين فقط من موعد لقائه مع نجاد في إسطنبول. حركة بدا البعض واثقاً بأنها تحمل «شيئاً ما» على خط أنقرة ـــــ طهران ـــــ واشنطن. «شيء» من غير الضروري أن تظهر ترجمته سريعاً، بما أن العقل التركي يؤمن بالتروّي، وبإعطاء كل شيء وقته لعدم «إفساد الطبخة».
وظهرت البراغماتية التركية بأبهى حللها خلال وجود أردوغان في طهران، حين جاهر بحقيقتين لا يمكن أن يقولهما أحد في جملة واحدة سواه: «إيران صديقة كبيرة لتركيا، ونحن ندعم حقها في الحصول على قدرات نووية سلمية وإنسانية». ثم انتقد التعامل الأوروبي غير العادل مع هذا الملف، و«ازدواجية المعايير التي تمارسها واشنطن والقوى الغربية». ولمّا نال إشادة من نجاد على مواقفه الأخيرة إزاء جرائم إسرائيل، بادر إلى التأكيد على استمرار التحالف الاستراتيجي مع تل أبيب، من دون أن يثير غيظ مضيفيه.
ويرى عدد آخر من المراقبين أنّ الدور التركي إزاء الأزمة الإيرانية هو محلّ ترحيب من القوى الأوروبية، لأنها لا ترغب حقيقية في تصعيد التوتر مع إيران. وعندما تظهر في خطاب قادتها نبرة عالية، يكون ذلك بضغط أميركي. إلّا أنّ هذا الدور ليس مطلوباً بالنسبة إلى واشنطن، التي تفضّل حواراً مع إيران عبر قنوات أخرى، يبدو أن باراك أوباما يرغب في أن تكون مباشرة.


إيران نوويّة... وتركيا أيضاًوفق هذا الرأي، توجد خطط لدى حكّام أنقرة لامتلاك طاقة نووية مستقبلاً، ويبدو أن روسيا ستكون وكيلتهم الحصرية، لتكتمل مصادر قوة «تركيا الجديدة» كلاعب يطمح إلى أن يصبح محوراً عالمياً.
إذاً، ما يقوم به أردوغان ورجاله حالياً، هو توفير الدعم المبكر من أحد أعضاء النادي النووي ذي الكلمة المسموعة، الذي لا بدّ أن يأتي اليوم الذي سيقول رئيسه إن «تركيا صديق عزيز لإيران، ونحن ندعم مساعيها لامتلاك طاقة نووية سلمية»، ومَن يدري، قد يقول الإيرانيون نعم لـ«تركيا نووية» من دون أن يردفوها بـ«سلميّة»، أسوة بإسرائيل النووية. كل شيء ممكن أن يحصل شرط أن تصبح كلمة السر في العلاقات التركية ـــــ الإيرانية هي نفسها التي تجمع أنقرة ودمشق، أي «الثقة» وليس فقط الاقتصاد.