عقد وتعقيدات أمام العضويّة الكاملة لا تحلّها سوى قيمة مضافة استراتيجيّةأرنست خوري
قدّم الأتراك تنازلات مؤلمة طوال عقود لنيل شرف العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي. استنسخوا عادات وثقافات أوروبية وصلت إلى علمانية لا مثيل لراديكاليتها. نكروا ماضيهم الأنتي ـــــ أوروبي أحياناً. سعوا إلى تلبية الشروط الأوروبية، علّهم يعانقون «معايير كوبنهاغن» التعجيزية بالنسبة إلى مجتمع شرقي. صالحوا أعداء، عدّلوا دساتير، من دون أن يؤدي ذلك إلى أكثر من وعود ومزيد من الشروط. لا يسار تركيا ولا يمينها ولا قوميوها ولا عسكرها تمكنوا من نيل أكثر من موعد لفتح باب التفاوض في قمة هلسنكي 1999. وبين الحين والآخر، كان لا بد من جائزة ترضية: إزالة الرسوم الجمركية بين تركيا والاتحاد الأوروبي منذ 1996. اتفاق جعل التبادل التجاري بين تركيا ودول الاتحاد هو الأكبر (مع بقاء التجارة مع روسيا بقيمة 27 مليار دولار في المرتبة الأولى بين الدول). أحياناً أخرى كانت جوائز الترضية مزحات سمجة بالنسبة إلى الأتراك كعرض نيكولا ساركوزي وأنجيلا ميركل، إبرام «اتفاق شراكة ممتازة» بدل العضوية الكاملة.
ثمّ حصل زلزال 11 أيلول 2001 وتردداته في مدريد ولندن. منعطفات أحدثت ردود أفعال متناقضة في أوروبا إزاء احتمال تركيا أوروبية: تخوّف من 70 مليون مسلم في قلب القارة المسيحية، يقابله اعتبار أنّ الفرصة تاريخية لـ«استيعاب» العالم الإسلامي والعربي من خلال مسلمي تركيا بالإنابة. تخويف عمّال أوروبا من جيش يد عاملة تركية «رخيصة»، في مقابل وعد بسوق خام وعملاق.
ثم وصل فريق «العدالة والتنمية» إلى الحكم وقرّر خوض المعركة بطريقة مختلفة. ضربة معلم تجسّدت بسياسات رجب طيب أردوغان وعبد الله غول، ومن خلفهم أحمد داوود أوغلو، الذين أصابوا عصفورين بحجر واحد: «إنجازات» سياسية ودستورية واجتماعية واقتصادية في الداخل، واستفاقة على صعيد المكانة الإقليمية والدولية لتركيا، فعلت فعلها في تلبية جزء كبير من المطالب الأوروبية، وكوّنت أعمدة لتثبيت قواعد لدولة ديموقراطية حديثة مؤهّلة لتكون دولة عظمى.
إلا أنّه لا شيء يرضي الأوروبيين؛ بدأت المفاوضات في مثل هذه الأيام قبل 4 سنوات، ومعها انطلق مسار طويل شديد التعقيد. الأوروبيون يعرفون ثمن بيع هويّتهم لـ«الغرباء». لذلك، تنبع ممانعتهم من معطيات تاريخية جغرافية دينية مصلحية، بما أن تركيا «ليست أوروبية لا في الجغرافيا ولا في التاريخ». وحين كان يحصل تقدم على مسار المفاوضات، كان يأتي دعم رافضي تركيا الأوروبية من الفاتيكان: أوروبا قارة مسيحية ويجب أن يكون دستورها مسيحياً.
8 من ملفات التفاوض مجمّدة بسبب قبرص والأتراك لا يتوقّعون شيئاً قبل 2020
فعل أردوغان وزملاؤه الكثير: إصلاحات داخلية وقفزات خارجية هائلة مع الأكراد والأقليات عموماً. في المعركة المتواصلة لتحييد العسكر عن السياسة. تعديل قانون العقوبات. إلغاء عقوبة الإعدام في حالات السلم عام 2002. تقريب المعايير الاقتصادية التركية من الأوروبية، مع تطوير اقتصادي هائل.
حلّوا المشكلة مع اليونان في 2007. تصالحوا مع الأرمن. كادوا يتوصلون إلى حل ملف جزيرة قبرص المقسّمة عام 2004. هكذا، تبقى العقدة القبرصية الحاجز الأكبر في المفاوضات، وهو ما دفع بمفوّضية التوسيع في الاتحاد إلى تجميد التفاوض على 8 من الفصول الـ 35.
اقتصادياً، سيكون عام 2013 حاسماً، لأنه موعد صدور التقديرات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، لذا على حكام «العدالة والتنمية» ملاءمة معايير اقتصادهم مع المعايير الأوروبية لمحاكاة أرقام «الموازنة الاتحادية» التي سيبدأ تطبيقها اتحادياً في 2014.
هذا رسمياً، أما شعبياً فالعقدة أكبر؛ وفي كل مرة تكون إحدى الدول الأوروبية على موعد مع انتخابات، تتوجه الأنظار التركية إلى عاصمة هذه الدولة بما أن الحزب أو الشخص الذي سيحكم، من شأنه تعقيد أو حلحلة الملف التركي: جاك شيراك ونيكولا ساركوزي مثالاً. الأول قال إن «ضمّ تركيا إلى الاتحاد هي أمنيتي الأغلى». والثاني، خليفته في الحزب، طمأن إلى أن تركيا لن تصبح أوروبية ما دام رئيساً. وقد تُرجم هذا التعهّد عندما عدّلت فرنسا (والنمسا) دستوريهما لاشتراط إجراء استفتاء شعبي قبل الموافقة على توسيع الاتحاد.
صورة غير مطمئنة، بما أنه، حتى بالحسابات الأكثر تفاؤلاً، فإنّ موعد 2020 سيكون جيداً جداً لقبول تركيا في الاتحاد. تاريخ يراه كثيرون من متابعي الملف مجرد وهم.
عندما يحل أحمد داوود أوغلو ضيفاً في باريس يوم غد، قد يذكّر المسؤولين الفرنسيين بحقيقة لا شكّ أنها لا تفارق عقولهم: أمنكم النفطي بيدنا، روسيا من خلفكم وتركيا من أمامكم. حاجتكم إلينا نفطية أولاً، بما أنه لا سبيل لوصول الذهب الأسود إلى قارتكم إلا عبر 3 طرق: إيران أو روسيا أو القوقاز. لذلك، وسّعت تركيا خط أنانبيب باكو ـــــ تبيليسي ـــــ جيهان مع مشروعي «نابوكو» و«ساوث ستريم» اللذين جعلا من تركيا أهم طريق نفطي في العالم. إنها الورقة الأغلى بيد الأتراك اليوم في لعبة «الابتزاز» المتبادلة مع الاتحاد الأوروبي.


«أوروبـــــا أوّلاً وأخيـــــــراً»ويستنجد أستاذ مادة العلاقات الدولية في جامعة كوش في اسطنبول، فؤاد كيمان، أحد أبرز منظّري «الأولوية الأوروبية»، بأحد أشهر الكتّاب المختصّين بالشأن التركي، يان ليسر، الذي يقول: «الاتفاق مع اليونان، الانفتاح على سوريا وإيران والعراق، المصالحة مع أرمينيا... كلها تطورات ذات معنى بالنسبة إلى جوار تركيا. إذا نظرت بمجهر تطور السياسة التركية الخارجية الفاعلة في السنوات الماضية، تجد أن أنقرة تحاول أحياناً أن تفعل كل شيء في الوقت نفسه، وأن تكون كل شيء بالنسبة إلى العالم أجمع. في ظروف معينة، قد تكون هذه السياسة مقاربة صالحة. لكنني حين أنظر إلى المدى البعيد، أرى أنّ الظروف تجعل من وضع تركيا أكثر صعوبة وتعقيداً وأقل تشجيعاً لاعتماد استراتيجية متعدّدة الأبعاد. تمتعت تركيا حتى اليوم بترف عدم الاضطرار على الاختيار بين أوراسيا والغرب، أو بين العالم الإسلامي وأوروبا مثلاً. لكن في الأعوام المقبلة، ستكون السياسة الخارجية التركية ملزمة بالتركيز على الأولويات أكثر من النشاطية العامة في العلاقات الدولية».
ويدافع أنصار خيار «أوروبا أولاً وأخيراً» عن نظريتهم باعتبارها الحل الوحيد لتثمير الجهود التركية في السياسات الدولية، ولصرف ديناميكية حراكها الدولي إلى فعالية وواقعية دولة مهمة ومحورية. وينطلق هؤلاء من قاعدة أنّ العولمة تنتج بالضرورة عالماً متعدد الأقطاب على حساب الأحادية القطبية، وبالتالي فعلى تركيا أن تستفيد من واقع أن أزمات العالم تدور حول حدودها، من «القضية الأفغانية» إلى «المسألة العراقية» و«المسألة الروسية» و«المشكلة الإيرانية» والقضية الفلسطينية.
وبالتالي يخلص المدافعون إلى التأكيد أن على حكام «العدالة والتنمية» أن يضعوا نصب أعينهم مبدأ الأولوية بدل نظرية داوود أوغلو القائمة على «تعددية الأبعاد» وعدم وضع جميع البيض في سلة واحدة. كلام يمكن اختصاره عملياً بالقول إن على تركيا أن تتعاطى مع الأزمات التي تحيط بها من منطلق البعد الأوروبي، أي معالجة أي أزمة أو القيام بأي وساطة أو مصالحة وفقاً لما تقتضيه المصلحة الأوروبية، ووفقاً لما يقتضيه تقدم مسار المفاوضات الأوروبية ـــــ التركية لقبول أنقرة في النادي الغربي على قاعدة أنّ نيل العضوية الكاملة في حدود عام 2020 سيكون أمراً مقبولاً وواقعياً جداً. إلا أن عدداً من المتفائلين الأوروبيين لا يتوقع بتّ الملف قبل عام 2021. هذا هو «العمق الاستراتيجي» بالنسبة إلى هؤلاء.