غطّت شجاعة الشبان والفتية، الذين نفذوا العمليات الفردية الأخيرة بحق المستوطنين والجنود الإسرائيليين، على السؤال عن الناتج من هذه العمليات، مرحلياً على الأقل. فالوعي المجتمعي الفلسطيني، خاصة الذي عايش الانتفاضة الأولى، يدرك أن الإرادة في المواجهة هي الأساس الأول للوقوف ضد الاحتلال الإسرائيلي وممارساته. حتى مع ما تملكه فصائل المقاومة من قوة عسكرية في غزة، تطورت على مدار الانتفاضة الثانية، فإنها للمرة الأولى تمارس تكتيكاً يوازي ما فعلته إسرائيل طوال سنوات الصراع، مقررة ترك الجمهور في الشارع دون عسكرة المشهد، أو إتاحة ذريعة لإسرائيل كي تحول تراشق الحجارة وعمليات الطعن إلى حرب صواريخ، ولعل هذا نابع أيضاً من فهمها الرغبة الشعبية في ذلك.
كانت جريمة خطف الفتى محمد أبو خضير وقتله وحرقه في القدس قبل أكثر من عام، هي السبب المنطقي والأساسي لإشعال هبّة جماهيرية فلسطينية، انطلاقاً من القدس، المدينة التي تقع خارج تأثيرات السلطة الفلسطينية (الرواتب والتنسيق الأمني) والأوامر الفصائلية المباشرة، أو حالة التهدئة «العجيبة» في غزة، وأيضاً خارج الاعتبارات التي يضعها الإسرائيلي كسقف صعب أمام فلسطينيي الـ48. هذا ما يجعل سكانها أسرع وأشجع القائلين «لا»، لإسرائيل. لكن المشهد تدحرج، آنذاك، إلى حرب عنيفة على غزة دامت لـ51 يوماً.
لم ينتظر المستوطنون، الذين هم خلاصة الحقد الإسرائيلي، كثيراً، حتى جاءت جريمة حرق عائلة دوابشة، لتفكّ الحزام عن الغضب الفلسطيني. والآن، كثيرون خارج هذه البلاد المحتلة، يسألون عن غياب السلاح عن الضفة، ويقارنون بين العمليات التي يستخدم فيها السلاح وينتج منها قتلى إسرائيليون بأخرى لا ينتج منها سوى استشهاد المنفذ، فضلاً عن عمليات الإعدام الميداني على الاشتباه.
بعيداً عن الشرح المتكرر للأسباب التي أدت إلى خلع سلاح الضفة، فإن من الضروري التأكيد أنّ من الطبيعي أن يكون سلاح الهبّة الشعبية مما توافر بين يدي الناس، ومن المفهوم، أيضاً، أن جمهوراً واقعاً تحت احتلال مباشر ويخضع لفحص أمني متواصل من السلطة التي تحكمهم، لن يكون له سبيل سهل للوصول إلى السلاح، وهذا ما يجعل منفذي عمليات الطعن يحصلون على سلاحهم من الجندي أو المستوطن الذي يُطعن أولاً! كذلك ثمة سؤال عن سبب صمت مناطق مقابل انتفاض أخرى، كسرته هذه الهبّة التي انتقلت بسرعة بين مدن فلسطين.

القدس: خزان مقاومة ورهان رابح


يختلف الوضع القانوني لسكان القدس من الفلسطينيين، القاطنين في شرق المدينة وبلدتها القديمة وضواحيها، عن بقية المناطق. فهم إدارياً وأمنياً خارج سيطرة السلطة، ولا يحملون هويتها ذات اللون الأخضر، لذلك لا يحصلون على جواز سفر منها. في الوقت نفسه، لا تحمل النسبة الغالبة منهم الهوية الإسرائيلية ذات اللون الأزرق، لذلك يحصلون على جواز سفر أردني مؤقت إذا ما أرادوا السفر، ولا يحق لهم المكوث خارج المدينة كثيراً، وإلا فسيفقدون حق الإقامة في مدينتهم. وهم يدفعون لسلطات الاحتلال الضرائب مثلهم مثل المواطنين من حملة الهوية الزرقاء، لكنهم لا يحصلون على الخدمات الطبية والتعليمية كالتي يحصل عليها دافعو الضرائب.
معنى ما سبق، أن عوامل الضغط النفسي والاقتصادي اليومية لا ينقصها الكثير من الاستفزاز الإسرائيلي، عبر الاقتحامات شبه اليومية للمسجد الأقصى واعتداءات المستوطنين، أو الضرائب المجنونة وهدم البيوت بالإجبار ومنع البناء فيها، كي يشتعل برميل البارود.

كان حرق الفتى أبو خضير سبباً لإشعال هبّة جماهيرية أخرتها حرب غزة

ثمة في القدس قوة شعبية تستطيع التعبير عن رفض السياسات الإسرائيلية، لهذا يفهم سبب كثرة العمليات في أحياء المدينة والبلدة القديمة والمسجد الأقصى. كذلك إن «الاحتكاك المباشر» بالجنود والمستوطنين يسهل على منفذي العمليات، من القدس وخارجها، تنفيذها داخلها، على عكس الحواجز الإسرائيلية في طرق الضفة التي يأخذ فيها الجنود احتياطاتهم، إلى جانب ما للمدينة من رمزية كبيرة تمنحها للعمليات فيها. وبما أنه لا حل في الأفق لوضع المقدسيين قانونياً أو معيشياً، فإنهم سيبقون يمثلون «خزاناً كبيراً» لأي مقاومة شعبية لاحقة، فضلاً عن أن باقي المناطق الفلسطينية تلحق بالعاصمة، دائماً وجبراً.

فلسطينيو الـ48: الانفجار المنتظر

سرعان ما يتأثر فلسطينيو الـ48 بأي حدث في القدس، أكثر من سكان الضفة الذين يصعب عليهم دخول المدينة إلا بالتهريب أو بتصريح يمنع على فئات كثيرة، ومن الغزيين الذين يمنع عليهم دخول الضفة، فضلاً عن القدس نفسها، إلا بتصريح إسرائيلي خاص يتطلب «سجلاً أمنياً نظيفاً». يشعر فلسطينيو الداخل المحتل الذين لديهم قدرة على الوصول إلى القدس، بأنهم المسؤولون بالدرجة الأولى عن المدينة، في ظل الحصار الخانق على أهلها، وتخاذل المنظومة العربية وتواطئها مع المجتمع الدولي. وصحيح أن فلسطينيي الـ48 على المستوى المعيشي والقانوني أفضل حالاً من المقدسيين، لكنهم لا يرون أنفسهم إلا أقل من مواطني درجة ثالثة في إسرائيل، ثم تأتي العنصرية الإسرائيلية اليومية وتشكل مع ما سبق عوامل تجعلهم عنصراً مساهماً وفعالاً في أي هبة شعبية.
مشاركة حملة الهوية الزرقاء في هذه الهبة، وتنفيذ بعضهم لعمليات كما جرى في عملية بئر السبع الأخيرة، تثير أكبر قلق لدى الإسرائيليين، وتجعل قيادتهم في حالة استفزاز كبيرة، تضطرها كما قيل إلى أن تبلع السكين، في ظل الرعب الذي يظهر في مفاصل الحياة اليومية للإسرائيليين، فضلاً عن التكلفة الكبيرة لهذا الاستنفار ونتائج أي اشتباكات تضر بالمصالح الاقتصادية واليومية للإسرائيليين مباشرة.
مستقبلاً، إن العدد الكبير لفلسطينيي الـ48 والمنافسة الديموغرافية المستقبلية التي سيمثلونها، يعنيان أن أي تحرك شامل لهم، سينقل المواجهة إلى الحلبة الأكثر حيوية لإسرائيل، وسيضيق هامش المناورة في مناطق أخرى.

الضفة... ولعنة «أوسلو»


فعلاً لا يتضح بأي عقل كان يفكر المفاوض الفلسطيني، الذي أقر للإسرائيلي، سراً أو علناً، بالمياه الجوفية للضفة وبمنع البناء في غزة لأكثر من 20 طبقة. ونتج من اتفاقية أوسلو قبل 22 عاماً إلى اليوم ثلاثة تقسيمات في الضفة المحتلة: مناطق «أ» (18% من الضفة) التابعة إدارياً وأمنياً للسلطة الفلسطينية، ومناطق «ب» (21%) التابعة إدارياً للسلطة وأمنياً للاحتلال، و«ج» (61%) التابعة إدارياً وعلى وجه خاص أمنياً للاحتلال. وبحسبة بسيطة، فإن الدولة الفلسطينية التي تركض وراءها السلطة لن تتعدى مساحتها، بجانب غزة، 6% من فلسطين التاريخية.
عموماً، تشكل مناطق «أ» العمود الفقري للكثافة السكانية في الضفة، وهي مناطق حيوية لعمل السلطة، وأي اقتحام إسرائيلي لها يمثل إحراجاً كبيراً لرام الله أمام جمهورها. وعملياً، استطاعت وتستطيع السلطة وأجهزتها الأمنية أن تحجّم المشاركة في مدن وبلدات هذه المناطق، باستثناء المخيمات، عن المشاركة الكبيرة في الهبة الشعبية، لكن كمية الغضب الفلسطيني التي عبّرت عنها الفئة الشابة لم تر السلطة قدرة على صدّها في ظل واقع سياسي يحتم عليها الاستفادة أصلاً مما يجري.
لكنْ، هناك شعور باليأس من جدوى ما يجري بدأ يتسرب بين صفوف سكان تلك المناطق التي تتعطل مصالحهم التجارية وحياتهم الأكاديمية بفعل الاشتباكات اليومية، وهو فعلاً ما سجل بصورة واضحة في الخليل، حيث يمنع الأمن الفلسطيني منذ أسبوعين حدوث أي مواجهات في منطقة ‏باب الزاوية بناءً على طلب التجار، وبتنسيق واضح تديره «الغرفة التجارية» منذ أربع سنوات، إلى جانب الاعتراض على الإضراب التجاري وتحويله إلى إضراب جزئي تحت الحجة نفسها.
كذلك لعل من المضحك أن بلدية الخليل تعمل يومياً لتنظيف ما تسميه «مخلفات المواجهات» وإزالة الحجارة من مكانها ووضعها في مكبات النفايات. كذلك لا ضرر في التذكير بمخاطبة السلطة، إدارات الجامعات وشركات الحافلات والنواب العرب في الكنيست، من أجل العمل، كل بطريقته، لتهدئة الأوضاع.
بذلك، تبقى المناطق المضطهدة من الاحتلال ومستوطنيه والمهمشة من خدمات السلطة، وهي «ب» و«ج»، التي يقطّعها عدد كبير من الكتل الاستيطانية وجدار الفصل العنصري، منبتاً لمقاومة شعبية يومية. ولكنهم أيضاً يعيشون في قرى وبلدات معزولة يمكن الإسرائيلي أن يغلقها بسهولة، ويعزل أهلها عن الفعل المؤثر.

قطاع غزة: المشاركة بأقل الإيمان


اتفاق التهدئة القائم بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي منذ آب 2014، يقيد غزة عن أي رد فعل مباشر، ولكنه في الوقت نفسه لم يوفر لسكانها ما يحتاجون، وأي حرب على ما ستشكله من تقييد للهبة الشعبية، فإنها ستحمل آلاماً أكبر لمواطنين لم تعمر بيوتهم أو تداو جراحهم بعد.
برغم ذلك، ارتأى الغزيون، المنقطعون عن التواصل الجغرافي أو المصاهرة والنسب بباقي المناطق بفعل إجراءات العدو، أن بإمكانهم الانضمام إلى هذه المواجهات، حتى لو كان ذلك بالتوجه إلى الحدود عند عدة مناطق حدودية (شمال، وشرق، وجنوب شرق)، ورشق الحجارة على الجنود الواقفين خلف السياج الحدودي.

يشعر فلسطينيو الـ48 بأنهم المسؤولون بالدرجة الأولى عن القدس

إسرائيل التي قابلت أول هبة شعبية من غزة بعنف كبير سبّب استشهاد سبعة في اليوم الأول، سارعت إلى نشر «القبة الحديدية» في المناطق المحيطة بها خوفاً من انهيار التهدئة بسبب هذا العدد، وهو ما دفعها إلى تقليل مقدار القوة المستخدمة وقوانين إطلاق النار على الحدود، بل إجراء تحقيق داخلي لمعرفة أسباب ذلك، انتهى باتهام وزير الأمن، موشيه يعلون، حركة «حماس»، بأنها سمحت للشبان بالوصول إلى مناطق أمنية مغلقة، كما لو أن الشريط الحدودي بين غزة والأراضي المحتلة فيه مناطق مفتوحة أو حتى آمنة!

الانتفاضة المأمولة


بوجود هذا التلاحم المناطقي الفلسطيني، الذي دفعت إليه الهبّة الشعبية غير المؤطرة سياسياً، تبقى القدس هي «مربط الفرس» لاستمرارها، لكن التفاؤل الفلسطيني يطلب تحركاً أوسع في الضفة، يشمل توسع مناطق الاشتباك في ظل غياب محافظات بأكملها عن المواجهات، كما يطلب تعدد الفئات المشاركة في ظل انحصار غالبية المنتفضين حالياً على الفئة العمرية ما بين 15 ــ 22 سنة، دون أن تكون لقطاعات واسعة من المجتمع المشاركة اللازمة لرفع هذه الهبة إلى مستوى الانتفاضة.
من جهة أخرى، لعلّ مستوى الغضب الشعبي المتزايد في أوساط فلسطينيي الـ48 سيجعل منهم جزءاً أكثر فعالية إن لم تهدأ الأمور في القدس، أو تحول ما يجري في الضفة إلى انتفاضة شعبية شاملة تعجز السلطة عن صدها، والاحتلال عن احتوائها.
وأمام هذا المطلب تحديات كبيرة، يمكن الإشارة إلى أحدها في الضفة تحديداً، وهو سياسة هدم البيوت التي بدأ تطبيقها بأثر رجعي بحق منفذي عمليات جرت منذ عام. وهنا تحديداً تكمن نقطة الاختبار الحقيقية لمدى التضامن الشعبي مع منفذي العمليات، فإلى جانب محاولة الشبان حماية بعض المنازل، يأتي تعزيز صمود عائلات الشهداء ليكون عامل دفع من أجل المزيد من العمليات دون القلق على مصير الأهل، في حال دعم العائلات التي فقدت بيوتها.