رأى بعض الكتّاب العرب أن ما يجري في فلسطين حالياً من هبة شعبية، امتداد لما سموه ربيعاً عربياً، في تجاهل تام لجملة أسس ومعطيات لا تخفى عن العوام، فضلاً عن أهل الخبرة، وهو ما يثير علامات استفهام كبيرة حول بواعث هذه الأقلام، فضلاً عن مستوى جهلها بحقائق الواقع الفلسطيني.
رزحت فلسطين، ولا تزال، تحت احتلال استيطاني، يحمل مشروعاً لتهجير ما تبقى من شعبها، وإحلال أشتات يهود العالم من بقاع الأرض مكانهم. يحولون مساجدهم إلى كنس، ومقابرهم إلى مقاهٍ، وزيتونهم إلى شجر غرق، تحت مظلة مشروع غربي عالمي رأس حربته كيان غريب في فلسطين، يضمن دوام تجزئة وضعف العرب جميعاً، بل تحويلهم إلى عبيد للغرب ينفذون كامل مخططاته مع دفع الثمن من البترول الخليجي مجاناً.
كافح الشعب الفلسطيني هذا الاحتلال، وسانده بعض العرب بين الفينة والأخرى، فيما تآمرت عليه غالبية الأنظمة والأحزاب والقوى العربية. وحافظ هذا الشعب على وسائل كفاحية راقية ضد الاحتلال، فظل مثار إعجاب شعوب العالم، برغم ما اجتاحته من صراعات داخلية بين قواه الأساسية، كان لبعض العرب دور في تفعيلها.
في المقابل، انطلق «الربيع العربي» من تونس ضد «طغيان النظام العربي السياسي والاجتماعي»، فكان ظاهره الرحمة ومن قبله العذاب، وأول عذاباته أن فلسطين لم تكن حاضرة في أي من شعاراته أو مساراته، وقد افتقد قيادة واضحة المعالم والأهداف، فضلاً عن الأسماء والعناوين. سقطت أنظمة واستعصت أخرى، وقامت أنظمة وبرزت غيرها.
اتضح أن العرب يعيشون في غياهب فصل صيفيّ حارق، لا يختلف على تشخيصه اثنان، وإن اختلف الجميع في تقييم تحولاته؛ إن كان لهيب الصيف مبعثه مؤامرات الغرب ابتداء، أم هي سموم لقّحت أزهار الربيع حتى أضحى عبقها رياحاً خماسينية، دفعت العرب إلى هجرة أوطانهم ولو غرقاً في أعماق المحيطات البعيدة.

كل من رأى الهبة الفلسطينية تبعاً لما اعتبره ربيعاً عربياً، هو خارج سياق الواقع


ارتكب «الصيف» العربي كل المحرمات السياسية، وأولها المراهنة على الضغط الغربي على الأنظمة، بما فيها نظام حسني مبارك التابع غربياً بالأصالة، برغم الطابع الشعبي لما يفترض أنه ربيع. الشعوب بطبيعتها وفي لاوعيها تبغض أميركا وتدرك أنها مبعث الشرور، فكيف يتفق أن تقف الولايات المتحدة ضد أنظمة خدمتها. وإن كان طبيعيا أن تنتهز فرصة التغيير ضد أنظمة رفضت خدمتها، حتى إن تماهت مع حالة قمع الشعوب ردحاً طويلاً من الزمن.
وكانت خاتمة المحرمات السياسية لهذا الصيف العربي تماهيه مع قمع الأنظمة بما هو أنكى وأفظع، فتحول إلى وحش بمسمى «داعش» وأخواتها، وقد شرعن الموت الزؤام باسم دين الإسلام، وهو الدين الأكثر سماحة في التاريخ، حتى مع العدو في ساحات الميدان.
انطلقت هبة فلسطين الحالية في هذا الشكر لتتركز في القدس وتشمل الضفة وغزة والأرض المحتلة عام 48، ضمن سلسلة هبّات لم تنقطع، منذ بداية احتلال فلسطين، حتى إن ارتفعت وتيرتها حيناً وانخفضت حيناً، طبقا لمستوى القمع الإسرائيلي، وأيضا بناء على الموقف الفلسطيني الرسمي والفصائليّ. وتنوعت وسائل المقاومة من سلمية شعبية متعددة الوجوه، إلى مسلحة بمختلف أنواع الأسلحة المتوافرة، ولكنها على تعددها لم تخرج عن نطاق المقاومة المشروعة في التأصيل الديني وفي القانون الوضعي، إلّا ما ندر، وقد قوبل هذا النادر الشاذ برفض رسمي وفصائلي وشعبي كاسح، بل حوصر هذا الفعل الشاذ وتقلص.
لكن، يبدو أن كل من رأى هذه الهبة الفلسطينية تبعاً لما اعتبره ربيعاً عربياً، هو خارج سياق الواقع، فضلاً على ضياعه التاريخي المعاصر؛ الواقع الفلسطيني وإن تأثر ببعض مفردات الواقع العربي من حيث وجود مشروع شيطاني غربي مركزه في فلسطين وأذرعه منبثة بين العرب، ومن حيث انتشار الفلسطينيين في معظم دول اللجوء العربي وتأثيرهم وتأثيرهم، فإنه يظل واقعاً مفعما بالخصوصية بما تحمله قضيته من سمات لا تخفى على أحد.
أما الواقع العربي وإن رفع شعارات الثورة والحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، فإنه جسّد منذ لحظته الأولى أسوأ أنواع التيه السياسي والظلم الاجتماعي، فظهرت قواه الثورية كأدوات قمع لا تختلف بشيء عن الأنظمة الحاكمة، إلّا بتأصيل مرجعية أكثرها تبعاً للتراث الديني بشقه السلبي المفتعل، وهو شق مناف لأصول الدين في بعده القرآني النبيل. كما ظهرت قواه العلمانية وعدد من قواه الإسلامية أكثر تبعية للغرب من الأنظمة، تحت مبررات دوما تذرعت بها الأنظمة التي ثار عليها هؤلاء.
عموما، لا يبدو الواقع الفلسطيني أفضل حالاً من الواقع العربي في بعده السياسي، إلّا إصراره على المواجهة مع الاحتلال، وهو إصرار جماعي يتأثر بالعامل الغربي والعربي، ولكنه بسبب طبيعة القضية الفلسطينية في تركيز مظلوميتها التاريخية، في ظل بعدها الديني العقدي، والإجماع الشعوري الشعبي المحلي والدولي، بموازاة صلف المحتل وعنصريته وديمومة إجرامه واستكباره السياسي بما يمس جملة الموقف العالمي، فإن الموقف السياسي الفلسطيني محكوم بالتمسك بأرضه ولو جزئياً، بما يتنافى مع بديهية الوجود العبري الإحلالي، الذي لا يرى في الأفق غير يهودية الدولة على كامل أرض فلسطين، وربما غير أرض فلسطين.
إن أدنى نظرة تقييمية إلى الهبة الفلسطينية الراهنة، مقارنة بالصيف العربي الحارق، لا يجد فيها المتابع إلّا شعباً يطمح إلى الحرية من المحتل الأجنبي، فيما يظهر المشهد العربي بصورة صراع أهلي ومذهبي وإقليمي، بل دولي، على الأرض العربية، وهو صراع تشعل جذوته أجهزة مخابرات عالمية هنا وهناك، في عملية استغلال بشعة لأصل مظلومية الشعوب العربية.

خاتمة المحرمات السياسية لهذا الصيف العربي تماهيه مع قمع الأنظمة بما هو أنكى وأفظع

ويلخص الطابع الميداني لهذه الهبة الفلسطينية أداء مقاتليها وهم يواجهون جنوداً ومستوطنين مسلحين بالبطش، وعندما كان طفل يهودي يقع في مرمى الفلسطينين، فإنه غالباً يخرج سالماً معافى، ولو كان في معترك الميدان، حتى لو قتل جنود هذا الكيان ومستوطنوه أطفال الفلسطينيين حرقاً، وتم إعدام نسائهم ميدانياً لمجرد طابع اللبس، أو صدور أي أمر يثير حفيظة جنود الاحتلال على حواجزه، وهي تحاصر كل صوت فلسطيني ينبض بالحياة.
هذا ما جعل الصحافة العبرية تتساءل عن طبيعة الرسالة التي تحملها الهجمات الفلسطينية في حرصها على تجنب المساس بأطفال المستوطنين، عقب جريمة المستوطنين في حرق عائلة دوابشة بما فيها من أطفال رضع. وما زال في البال حرق المستوطنين وحاخاماتهم الطفل محمد أبو خضير، بما يحمله الفعل الفلسطيني في ذلك من درس أخلاقيّ مشرف، فيما يرى العالم كله ميدان الصراع العربي ــ العربي من ليبيا إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق ومصر، وقد انتهكت فيه جميع المحرمات، ولم يعد الأمر قاصراً على «داعش» كنموذج مكثف للجنون الإجرامي، بل تعمم السعار الداعشي، عبر جرائم قلّ نظيرها في التاريخ، وانتشرت انتشار النار في الهشيم حتى بين أطراف المعسكر الواحد، ممن ينتمون إلى المدرسة نفسها والفكر نفهس. حتى إنك تجد فصيلاً يصف نفسه بالاعتدال (كتائب أحرار الشام) يجهز على جريح داعشيّ، تبعاً لفتوى صدرت عن ابن تيمية قبل سبعة قرون، وفق قراءة خاصة به لحدث سبقه بسبعة قرون أخرى!
ولئن اتفقت حال الهبة الفلسطينية الراهنة مع ما اعتبر ربيعاً عربياً، في إمكان الاحتواء والتوجيه المضاد، تبعاً لمخططات عبرية، أو مشاريع أميركية، أو مراهنات محلية محدودة النظر، في ظل غياب قيادة جذرية واعية تعد الحدث وتوجهه نحو تفعيل القضية، باعتبارها مشروع الأمة المركزي في نهوضها الشامل من التبعية والتجزئة والغياب الحضاري، فإن ما يميز الحال في فلسطين، أن أي حدث فيه يذكر الصديق قبل العدو بمظلومية هذا الشعب، ويخدش ركود الأمة عن قلبها الموجوع، بل يبقى في حدّه الأدنى مسماراً يدق في نعش الاحتلال، طال أمده أم قصر.