أصبح الإنترنت والتلفزيون اليوم أنبوب المعلومة التي تعبر عبر الكمبيوتر إلى عين الإنسان أو أذنه، معتمداً على ذاكرة اصطناعية خارقة، وسرعة وصول جعلته متقدماً على سائر وسائل نقل المعلومة. النقاش احتدم أخيراً، عدد من المتخصّين يؤكد أن شبكة الإنترنت (أو غوغل وأخواتها) تجعلنا «أغبياء»

خضر سلامة
للوصول إلى معنى كلمة ما، لم يعد من المطلوب أن يغرق الباحث في قاموس اللغة لساعات يقوم خلالها بإعداد بحث، أو بقراءة عميقة ومتكررة، لمعرفة خبر أيضاً، صارت القراءة المتأنّية وسيلة ثانوية، يكفي الوصول إلى «غوغل» مثلاً، الذي سيفتح، في عُشر من الثانية، ملايين الاحتمالات للكلمة التي نريد، أو يمكن الدخول إلى عنوان صحيفة إلكترونية، من أجل قراءة الخبر سريعاً، أو انتظاره في خدمة «أس أم أس» حديثة، وغيرها، القواميس، الإعلام المكتوب، الكتب... كلها أصبحت مهملة في عالم المعلوماتية المختصرة للوقت وللجهد، تغيرت طريقة الإنسان في القراءة على سبيل المثال، ولكن، ألم تتغير أيضاً طريقة تفكيره بعد ذلك؟ المشكلة، حسب المراقبين، لا تقف عند حدود القراءة، فالكتابة أيضاً، اختُزلت في تقنية الكيبورد، الأسرع، والمختصرة لوقت الكتابة على الورقة، ومن ثم طبعها على الكمبيوتر، أضف إلى ذلك وسائل التصحيح الأوتوماتيكي، التي تغني عن إعادة قراءة النص لتنقيحه. بروس فريدمان، المختص في الأنسجة العصبية، يعرض نفسه مثالاً مرضياً: «أخذت قدرتي الفكرية شكلاً مصطنعاً لمخزن صوري، أصبحت القراءة مجرد تسجيل لصور سريعة، كنسخ عن صفحات إلكترونية، أو مشاهد فيديو، أي إن العين لم تعد قارئة متصلة بعنصر إدراكي غير مادي، بسبب تكرار استعمال التكنولوجيا الجديدة للوصول إلى المعلومة، أصبحت العين مجرد مصوّر (scanner) للصور وللصفحات»، ويتابع فريدمان متحدثاً في مقالة على مدوّنته عن مشكلة أخرى «لم أعد قادراً على كتابة موضوع أكبر من ثلاثة مقاطع أو أربعة، أصبح الاختصار هو سيد الموقف، بسبب التكرار المستمر لعادة السرعة، والقراءة السطحية، أو الكتابة السريعة. هل هو تغيير نفسي؟ أم هو تغيير على مستوى الأحاسيس الواعية كالعين والأذن وبعض زوايا الدماغ، ما يخفف من قدرتها العملية؟ يجب علينا بحث ذلك». يقول فريدمان.
الأمثلة قد لا تثبت شيئاً إذاً، بانتظار الأبحاث المباشرة على الجهاز العصبي، وأبحاث الاختصاصيين النفسيين، لإعطائنا صورة كاملة عن كيفية تأثير الإنترنت على قدراتنا القديمة، ولكن، في دراسة صادرة أخيراً عن جامعة ليدز، استمر العمل على تنفيذها خمسة أعوام، وضع الباحثون احتمالاً علمياً لإمكان تعرّض جيلنا لتغيير عميق في طريقة القراءة والتفكير، الدراسة أخذت موقعي بحث علميّين، هما موقع المكتبة البريطانية، وموقع كونسورتيوم تربوي إنكليزي، وأثبتت أن المستخدمين لخدمات البحث، غالباً ما يقرأون صفحة أو صفحتين من نتيجة ما، لينتقلوا بعد ذلك إلى مصدر آخر دون العودة إلى الأول، أما المقالات الطويلة، فلا تقرأ، وفي بعض الأحيان، تسجّل على الكمبيوتر دون إشارة إلى أن المستخدم سيعود إلى قراءتها لاحقاً «من الواضح أن المستخدمين لا يقرأون بالمعنى التقليدي للقراءة، النتائج تشير إلى أن تعريفات جديدة للقراءة تظهر، من حيث الاكتفاء بقراءة العناوين، أو بإلقاء نظرة سريعة على مقطع كامل، ومن ثم نقل الخلاصة بطريقة بسيطة دون تعمّق في الكلمات، من أجل الوصول إلى نتيجة سريعة دون عناء.. ما يظهر أن المستخدم يتجه إلى الإنترنت للبحث عن مراده، من أجل تفادي الوسائل التقليدية للقراءة!» يقول الباحثون في جامعة ليدز.



الإحصائيات اليوم، تُظهر أننا نقرأ أكثر مما كان الجيل السابق يقرأ في السبعينيات والثمانينيات، حين كان التلفزيون وحده هو مصدر المعلومة، الإنترنت أعاد قليلاً من وهج القراءة، ولكن بطريقة مختلفة، قراءة أخرى، يصفها البعض بالسطحية، السريعة، البسيطة، التي يبدو أنها تغيّر أيضاً في طريقة التفكير ومنهجيته، وتذوّبه داخل قالب عالم المعلوماتية وعالم الميديا والصورة، ماريان وولف، صاحبة كتاب «تاريخ وعلم الدماغ الذي يقرأ»، تحلّل هذه النتيجة «نحن لسنا فقط ما نقرأ، بل نحن كائنات إنسانية واعية، تعريفٌ لطريقة القراءة التي نتّبعها» وولف القلقة من طريقة اليوم في القراءة التي تختزل الأهدف في الفاعلية والآنية، عوضاً عن التعمق والتقويم الذاتي للمعلومة التي تصلنا والمقارنة بأصول معلومة أخرى مختلفة»، تقول: «عندما نقرأ مطبوعة على الإنترنت، فنحن نتحول إلى مجرد محوّل آلي، أمّا قدرتنا فعلى التعقيب على نص، أو القراءة المتواصلة دون مقاطعة، وتقويم ما نقرأ، أو النقاش في حلقات جماعية لفكرة ما، فكلها تبقى قدرات غير مستعملة».
فك الأحرف والقراءة، حسب وولف، ليس قدرة جينية، بل يكتسبه الإنسان، ولكن ما يورثه جينياً هو وعيه وسعته الفكرية والإدراكية، ولكن هذه بحاجة إلى تدريب وتجهيز، يهدّدها عالم الإنترنت اليوم، فهل نذهب ضحية السرعة والاختصارات الزمنية لكل شيء اليوم؟ وهل نحن فعلاً ضحايا فكريين للإنترنت الذي يخفي خلف فوائده مضارّ تهدّد قدراتنا بالانقراض؟