Strong>فداء عيتاني لا تخفي أوساط قيادية في المعارضة أن لجميل السيد، المحرر أخيراً من سجن رومية، برنامجاً جدياً وخاصاً في السياسة، لن يتوقف، ولن تدير له المعارضة ظهرها، وهو سيوقّت حجم الجرعات وتواريخها بحسب ما يراه مناسباً، والمعارضة نفسها لن تتدخل في برنامج الرجل الذي تأخرت في تبنّي قضيته ورفاقه الجنرالات المعتقلين الثلاثة.
أما مصطفى حمدان، الذي يحاول ما استطاع الالتزام بموجبات العمل العسكري، الخاضع حتى اللحظة لشروطه، بصفته لا يزال في السلك، فإن له هو الآخر برنامجاً خاصاً، وتحديداً في الأوساط التي ينتمي إليها في بيروت، حيث سيكون له دور توحيدي للعديد من الأوساط البيروتية المعارضة، وبعض الأطراف التي شطّت نحو الموالاة خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، حيث قد يتمكّن من توحيد بعض القوى الناصرية، وخاصة أن حمدان يعدّ في أوساط جميع المؤيدين لحركة الناصريين المستقلين «المرابطون» أحد الأعلام والكوادر الناجحين، ليس فقط بسبب قرابة الدم التي تجمعه بإبراهيم قليلات، بل أيضاً بسبب مواقفه من القضية الفلسطينية، ومن كل ما كان يجمع العروبيين في لبنان. ويسخر قادة في المعارضة من «أؤلئك الذين لعبوا لأعوام مع جميل السيد، الذي لا يملك كلمات السر والتفاصيل غير المعلنة في لبنان وحده بل في أكثر من عاصمة إقليمية»، ويؤكدون أن الخارج من الأسر اليوم سيعيد إلى الموالاة بعضاً من رشدها الذي فقدته في سكرة الأغاني والشعارات الجذابة، التي صدّقتها هي نفسها، ناسية أن البلاد تحكم بتوازن (طائفي) دقيق، وأي إخلال به قد يطيح الحياة العامة وينقل البلد إلى الحرب الأهلية.

نموذجا الجماعة والشيوعي

إلا أن قيادة المعارضة لا تعوّل كثيراً على إطلاق الضباط الأربعة، ودورها في الانتخابات النيابية المقبلة، فالكتل الرئيسية التزمت خياراتها، ولا تغييرات رئيسية في الخارطة تلوح في أفق الانتخابات، والانقسام العمودي الذي يشق البلاد مبني على أسس طائفية ومذهبية لن تزيده الأنباء الواردة من تلفزيون المنار أو إخبارية المستقبل إلا تصلّباً، وإن كان يمكن ضعضعة جدار هذا الطرف أو ذاك فإن الواقع في صناديق الاقتراع سيبقى يشبه نفسه. وفي إطار الخيارات المحسومة يتحدث قادة في المعارضة عن نموذج الجماعة الإسلامية، التي بحسب معلوماتهم تبلغت الموقف الرسمي السعودي (مباشرة أو بالواسطة) والقاضي بضرورة دعم تيار المستقبل ولوائحه في كل لبنان مقابل نائب واحد في بيروت هو عماد الحوت، مع التشديد على أن هذا الموقف يجب أن تقرّه الجماعة داخلياً قبل إعلان النائب سعد الحريري لائحته في دائرة بيروت الثالثة.
بالنسبة إلى العديد من قوى المعارضة فإن موقف الجماعة سيكون منسجماً مع الطلب السعودي، سواء أُعلن ذلك أو لم يعلن، وأن الجماعة، التي وقفت في أحلك لحظات الانقسام المذهبي إلى جانب ممثلي أهل السنة الرسميين، لن تشذّ هذه المرة عن الخط.
ويتحدث هؤلاء عن إرباك أحدثته العلاقة مع الجماعة الاسلامية منذ حضورها لقاء عين التينة خلال التحضير ليوم الثامن من آذار عام 2005 حتى ما بعد يوم السابع من أيار عام 2008، حيث اعتقد بعض قادة المعارضة أن المكلفين العلاقة مع الجماعة لديهم مواقف شخصية ومسبّقة منها، وأنهم يسيئون نقل الوقائع والمواقف نظراً إلى مواقفهم هذه. ولكن اجتماعات عدة عقدت لاحقاً بحضور عدد من قادة المعارضة والجماعة أظهرت أن من كان يتولّى صياغة العلاقة مع الجماعة الإسلامية كان يخفف من حدة مواقفها لمصلحة استمرار العلاقة ولو بالحد الأدنى، بينما كان الجميع في المعارضة يعتقد العكس. وانطلاقاً مما يتجمّع لدى المعارضة من بيانات ومعلومات ومواقف، وتقارير داخلية، تعتقد المعارضة أن موقف الجماعة الضمني محسوم، وأنها بانتفاضاتها الأخيرة ثأراً لكرامتها، تحاول تحسين شروطها أمام المجزرة التي ارتكبها بحقها النائب سعد الحريري، عبر رفضه إعطاءها أكثر من مقعد واحد في بيروت لعماد الحوت، الذي سيُكنّى باسمه الحركي خلال الانتخابات وفي حال دخوله البرلمان، أي ممثل المجلس الشرعي في المجلس النيابي، ولن يكون حراً في تمثيل الجماعة الإسلامية.
ويقارن ممسكون بالملف الانتخابي في المعارضة بين ما قامت به الجماعة الإسلامية، من خفض للسقف الكلامي ورفعها له، حين تكون قريبة من اتفاق مع سعد الحريري، وحين تختلف معه في الحصص والتوزيع، وبين ما قام به الحزب الشيوعي اللبناني في إدارة ملفه الخاص، فحين اكتشف الشيوعيون أن لا مكان لهم كما يطمحون ويرغبون على لوائح المعارضة، أداروا الظهر لها، وهاجموها، ولكنهم لم يقتربوا من الطرف الذي رأوا أنه لا يتقاطع معهم لا من قريب ولا من بعيد، كما أنهم لم يُخضعوا المعارضة لابتزاز ومساومات، وتهديدات بتوزيع أصواتهم على أخصامها الانتخابيين، بل اكتفوا بالتأكيد أنهم سيخوضون الانتخابات بمفردهم أو بتحالفات مناطقية، دون أن يستجدوا أو يلوّحوا حتى بما لهم من فضل في عمل المقاومة وفي إطلاقها وفي دعمها سياسياً وعملياً.

الصراع على رئاسة الحكومة

في عاصمة الجنوب ينعكس موقف الشيوعيين من المعارضة بالدعم لأسامة سعد، ملتزمين مبدئيّتهم، وهو ما يريح قادة المعارضة، التي تثمّن أيضاً موقف الشيوعيين هذا. والقادة أنفسهم يرون أن حالة الصدمة التي أحدثها ترشّح فؤاد السنيورة في عاصمة المقاومة بدأت تنحسر، وأن المرشّح أساء إلى نفسه عبر ظهوره الإعلامي، وهم يشاهدونه دون إخفاء حبورهم، يبدو ضعيفاً أمام الناس، والحضور، ومرشحاً مرتبكاً في الكلام والقول، كما في الفعل وممارسة التحركات ذات الطابع الشعبوي والتقاط الصور له وهو يجول في الأسواق والحرس الشخصي يحدّق إلى المقتربين منه، عدا عن خطابه الانتخابي الركيك، ويقارنونه بأسامة سعد الذي يبدو فعلاً ابن المدينة، وشعبياً بامتياز، دون شعبوية مكشوفة كخصمه السنيورة.
ويقول هؤلاء إن ما قاله أسامة سعد لحظة إعلان ترشّح السنيورة جاء مطابقاً للواقع، فـ«ربّ ضارة نافعة» وقد اضطرّ رئيس الحكومة إلى إماطة اللثام عن وجه لا يعرفه الناس، واكتشفوا أنه خارج أسوار قصره شخصية نكرة، وبعيد كل البعد عن الناس وهموم البشر وشوارع المدن والطبقات الفقيرة وصيادي السمك، كما أنه لا ينتمي إلى صيدا لا من قريب ولا من بعيد، وبعض قادة المقاومة الذين أمضوا بضعة أعوام في عاصمة الجنوب في إطار مهمّاتهم الميدانية، يؤكدون أنهم نسجوا شبكة من العلاقات مع أبناء المدينة، وتعرّفوا إلى شوارعها ومنعطفاتها، وباتوا يدركون حساسيات أبناء المدينة ومخاوفهم وآمالهم، ويسمعون أنينهم، أكثر بما لا يقاس من ابن السرايا، الذي تذكّر لحظة الحاجة الانتخابية أن له مدينة ومسقط رأس.
إلا أن هؤلاء يستدركون أنه رغم دعم الشارع لأسامة سعد، وتأمين بعض مستلزمات المعركة الانتخابية له، والحشد الشعبي الذي يحيط بالرجل، فإن اللعب على الوتر المذهبي في المدينة، ومحاولة استجداء المشكلات فيها، وإثارة النعرات، وضخّ الأموال بين أحياء مدينة معروف سعد، والاستفادة من خدمات قوى الأمن الداخلي وباقي الأجهزة الأمنية، وإمساك الناس من رقابهم عبر تهديدهم بمصادر عيشهم، وخاصة الموظفين في المؤسسات التابعة لتيار المستقبل والنائبة بهية الحريري، والاستفادة من المجنّسين وابتزاز هؤلاء بحقوقهم الطبيعية كمواطنين لبنانيين، كل ذلك يضع أسامة سعد أمام معركة جديّة وقاسية، إلّا أنها ليست معركة ميؤوساً منها، ولا محسومة سلفاً. غير أن الضارة تستمر في جلب المنافع للمعارضة، فها هو موقع رئاسة الحكومة يصبح هدفاً للاستخدام المباشر من جانب رئيسها المرشح، كما أن ضرب السنيورة بصفته رئيس الحكومة الحالية، ومرشحاً محتملاً دائماً لرئاسة حكومة مشابهة، يبدو مغرياً حتى لأطراف من مدن أخرى ودوائر بعيدة، فلا شيء يقنع قادة في المعارضة أن بعض المرشحين الدائمين لترؤس الحكومة لن يسهموا في وخز جسم السنيورة بالإبر إذا تمكّنوا، أو طعنه بالحراب حتى، فهو أولاً ابن طائفتهم، فلا ضرر مباشراً سينعكس عليهم إذا تصدوا له، أضف أنه منافس ضعيف سبق أن حرمهم أعواماً طويلة إمكان تحقيق طموحاتهم، وخاصة أبناء الشمال، الذين أُقصوا عن القيادة الفعلية للبلاد منذ استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بعد إجرائها انتخابات عام 2005.
ورغم تشديد الميقاتي المرشّح ضمن لائحة تيار المستقبل في طرابلس، على ماكينته الانتخابية وأقطابه وكوادره بضرورة الالتزام باللائحة كما هي، وإعطاء الأصوات كاملةً لها، فإنه لا يمكن تصور ما هي حقيقة موقفه من استمرار مصباح الأحدب القريب من سعد الحريري، حليفه الانتخابي، في ترشّحه منفرداً، وهو سبق أن شاهد هذه اللعبة حين كان رئيساً للحكومة ومديراً للعمليات الانتخابية، حين ترشّح الأحدب منفرداً وربح، وهو ما يرجّح الكل تكراره اليوم، على حساب مقعد أحمد كرامي، المحسوب على ميقاتي، وبالتالي فإن تيار المستقبل سيصوّت ضد كرامي (وميقاتي ضمناً) لمصلحة الأحدب، كما أن التنافس على تحقيق رقم يؤهّل صاحبه لترؤس الحكومة، يخص الوزير محمد الصفدي المنافس لميقاتي، إضافةً إلى النزاعات المعلومة بينه وبين محمد كبارة، أضف إلى ذلك معرفة جميع من في اللائحة أن التحالف أورثهم ثقلاً لا مكاسب إضافية سواء لاضطرارهم إلى إقناع ماكيناتهم بالعمل بطريقة منضبطة وصبّ الأصوات لمصلحة من بقوا يحرّضون ضدهم أعواماً، أو لناحية وجود أسماء مخصّصة للمراضاة، دون أي أمل لها في الفوز بمقعد نيابي، أو حتى باسم مرشّح سابق قوي، كسامر سعادة، الذي يحمل معه إلى مدينة طرابلس ثيابه وربطة عنقه فقط لا غير، بينما نجح المرشح المقابل والمنفرد جان عبيد في الظهور بمظهر الضحية والقوي، القادر على التحدي في الوقت عينه.
كل هذا قبل الإشارة إلى الخصم القوي الذي يمثّله عمر كرامي لهؤلاء جميعاً، والذي لا يخفي قادة في المعارضة عدة ملاحظات على أدائه الانتخابي، ولكنهم يشيرون إلى أن القرار المركزي باستمرار الدعم له لن يتغيّر. إضافة إلى نزاعات رؤساء الحكومة المحتملين في طرابلس، لا يزال الكثيرون من أقطاب المدينة يحاولون استمالة المجموعات السلفية، رغم أن الأخيرة باتت بحكم النائمة حالياً، وتحاول الابتعاد عن الكأس المرّة التي ذاقتها خلال الأعوام الماضية من يد تيار المستقبل، وإن كان من حركة سلفية لافتة في هذه المرحلة فهي حركة صفوان الزعبي، الذي يواصل العمل حثيثاً في أطراف المدينة وقلبها، ولا يخفي ميله إلى جانب المعارضة والمقاومة، وهو الذي لم يسمح لنفسه بالقول إنه «أنهى التفاهم مع حزب الله»، وكان دائماً يردد أن مفاعيل التفاهم سارية بغضّ النظر عن الضغوط التي مورست في الشمال عليه، وعلى الدكتور حسن الشهّال.


خطأ آخر

في بيروت يكاد ينعدم العمل الجدي بين صفوف المعارضة في الدائرة الثالثة رغم كثرة الطامحين، ولوهلة كاد يتحول النزاع الانتخابي إلى نزاع ما بين الطرفين الأرثوذكسيين في المدينة، قبل أن يتخذ النزاع شكلاً مقبولاً. في الوقت الذي بدأت فيه ماكينة سعد الحريري في بيروت الثالثة العمل الجدي لاستقطاب الناخبين، وعدم ترك بيروت تغفو صباح أحد الانتخابات، بل دفعها نحو الصناديق، وإغراق الأخيرة بأكبر كمية ممكنة من الصوت السني، لإرساء مقاليد زعامة السنّة بيد الزعيم الشاب، وحسم نقاش يكاد يصبح مزعجاً بشأن من يمثّل أهل السنّة في لبنان. علماً أن الأطراف الرئيسيين في المعارضة يتحدّثون عن «مزرعة بطاطا في بيروت كلها رؤوس»، ويزفر قادة وهم يرون جهود أعوام طويلة من العمل قد انتهت إلى عراك بين مجموعة من المعارضين، بعضهم لم يرفع إصبعاً في وجه الحملات القاسية التي تعرّض لها جسد المعارضة، إضافةً إلى استمرار الكلام عن ترؤس لائحة بينما كان الاتفاق المسبّق مع الجميع في بيروت الثالثة على إخراج لائحة دون رأس، والاكتفاء بتوزيع الأدوار.