نقولا ناصيف بين رئيس المجلس نبيه برّي والرئيس ميشال عون أكثر من خلاف على انتخابات جزين. لم يطبع علاقتهما ودّ ظاهر، ولا أكثَرا من لقاءاتهما التي غالباً ما اقتصرت على موفدين نقلوا رسائل متبادلة. لكلّ منهما مآخذ على الآخر تجعله على طرف نقيض منه. يُحذَّر الإفراط في إبراز التحالف. لولا حزب الله الذي يشدّ الطرفين إليه، لأمكن القول إن علاقتهما مرشحة للانفجار في أي وقت: يحتاج الحزب إلى برّي من أجل وحدة الطائفة والموقف السياسي، ويحتاج إلى عون من أجل استمرار غطاء مسيحي استثنائي لموقعه في المعادلة الداخلية وتحالفاته الإقليمية وسلاحه. وهكذا يظلّ حزب الله قادراً على استيعاب تناقضات الطرفين المختلفين، والمحافظة على تحالفهما من خلاله، ولأنهما في حاجة إليه أيضاً في نظام التوازن السياسي الداخلي.
أولى إشارات عدم الودّ تلقّاها برّي إثر انتخابات 2005، عندما لم يكتف الجنرال بعدم الاقتراع له رئيساً للمجلس، بل حضّ ثلاثة من حلفائه في كتلته النيابية الكبيرة، هم النائبان ميشال المرّ وإلياس سكاف وحزب الطاشناق، على التصويت ضد انتخاب برّي. فحرم الأخير 21 صوتاً أضعفت كتلة ناخبيه في مرحلة كانت مشوبة بالغموض والشكوك والحذر، وأيضاً بالانقلابات السياسية المتتالية. واجه برّي أولاً رفض السفيرين الأميركي جيفري فيلتمان والفرنسي برنار إيمييه انتخابه عندما حرّضا الغالبية الجديدة التي مثلتها قوى 14 آذار على انتخاب سواه. ثم واجه جهداً مشابهاً سعى بدوره، استكمالاً لفوز هذا الفريق بالغالبية النيابية، إلى انتخاب شيعي آخر من صفوف هذه الغالبية، ثم ـــــ وفق ما يورده مطّلعون ـــــ ذهب النائب سعد الحريري إلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يقترح عليه تأييد شيعي غير برّي لرئاسة البرلمان. فاتحه باسم النائب محمد رعد. قال نصر الله للحريري إنه حزبي، فردّ بأن يستقيل من حزب الله ويترشّح لرئاسة المجلس. رفض نصر الله مجدّداً وأقفل باب الحوار على مرشّح وحيد تجمع عليه الطائفة هو برّي. ورغم فوز برّي برئاسة برلمان 2005، للمرة الرابعة، فإن اقتراع كتلة مسيحية كبيرة ضده ترك أثراً في تثبيت الإجماع على انتخابه.
لم تكن تلك الإشارة الوحيدة، ولا الخلاف على انتخابات جزين سيكون الإشارة الأخيرة. وقد يكونان الحليفين الوحيدين اللذين لم تجمع بينهما علاقات شخصية. وما خلا لقاءات على هامش جلسات المجلس وإلى طاولات الحوار، ولقاءات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة في أربع سنوات، يتفق برّي وعون على أنّ كلاً منهما من مدرسة مناقضة للأخرى. أحدهما سياسي والآخر عسكري. الأول شارك في صنع نظام ما بعد اتفاق الطائف، والآخر ناوأه. قلّلت دوافع الاحتكاك بينهما حرب تموز 2006 التي انضم فيها عون إلى حزب الله مدافعاً عن المقاومة وسلاحها، فأطلق نصر الله مذ ذاك الالتزام المكلف للحزب، وهو أن للجنرال «ديناً علينا مدى الحياة».
أحاطت علاقة برّي بعون معطيات أبرزها:
1 ـــــ مع أنهما لم يدخلا مرة في سجال سياسي ولا في اشتباك علني، ولم ينتقد أحدهما الآخر أو أساء إلى تحالفه معه لأسباب سياسية، لا يصحّ فيهما ما يحلو لبرّي وصف علاقته بالنائب وليد جنبلاط بالحليف اللدود. فالأخيران اللذان طبعا معظم أحداث لبنان في العقود الثلاثة الأخيرة، تحالفا وتقاتلا في الشوارع وغنما من الحكم، وشاركا السوريين وحاربا المسيحيين، وتعاونا مع الرؤساء المتعاقبين واختلفا معهم وتوطآ على التوازن الداخلي كي يستمرا أقوى حليفين. ظلّا صاحبي التجربة الشخصية والسياسية الأكثر مدعاة للتعجّب. كلاهما يفهم إيحاءات الآخر ومغازي توقيتها، ولا يذهب بخلافه معه إلى القطيعة، ثم يعودان إلى الحوار. حتى في عزّ الانقلاب السياسي ضد سوريا عام 2005، كانا على طرفي نقيض، أفصحا عن الاختلاف لا عن التناقض. يقول برّي إنه لا نظام سياسياً ولا استقرار بلا جنبلاط، ويرى الأخير في حليفه ضمان الطائف. بين برّي وعون أزمة ثقة وريبة وشكوك حادة، لا اختلاف في الموقف السياسي.
2 ـــــ لم يستسغ برّي قول الوزير جبران باسيل، بعد اتفاق الدوحة، إن التيار الوطني الحرّ استردّ جزين، إلا أنه لم يرَه مؤشر خلاف جدّي. ورغم تباعد وجهتي النظر، رسم رئيس المجلس سقف موقفه السياسي والانتخابي: قال لعون إن مقعدَي النائبين ميشال موسى في الزهراني وسمير عازار في جزين خطان أحمران غير مطروحين للمساومة، وقال لحزب الله إنه لن ينقص كتلته النيابية (15 نائباً) مقعداً واحداً. أرفق هذا السقف بخطوتين: استمرار الحوار مع عون عبر النائب علي حسن خليل وأحمد البعلبكي، وإبداء استعداده للتخلي عن المقعد الكاثوليكي في جزين فعوّضه الحزب إياه بمقعد الدائرة الثانية من بيروت. طرح برّي أيضاً اقتراحاً بلائحة ائتلافية تضم عازار ومرشحي التيار في دائرة جزين كي تظلّ المعارضة متماسكة.
3 ـــــ يتمسّك برّي بتمثيل مسيحي رافق كتلته منذ انتخابات 1992، امتد مسيحياً إلى جزين والزهراني وحاصبيا ومرجعيون، ودرزياً إلى حاصبيا ومرجعيون، وسيحمله على خوض انتخابات جزين بلائحة مقفلة يعلنها عازار السبت وتضمّه والنائب أنطوان خوري وكميل سرحال. ويرى أن سعي عون إلى تمثيل غير مسيحي لتكتله، في جبيل وبعبدا وزحلة، يبرّر ما سبقه إليه رئيس المجلس، وهو الأخذ في الاعتبار للجوار التابع للدائرة الانتخابية المؤثر في الاقتراع والتمثيل النيابي. وما يصحّ على المرشّح الشيعي في جبيل، حرّي أن يصحّ على مرشح ماروني في جزين ليس عضواً في حركة أمل، ويمثّل حيثية عائلية وشعبية ألفتها التركيبة السياسية والاجتماعية لجزين.