حسن عليقاستغلت الأجهزة الأمنية المعنية بمكافحة التجسس اليومين الماضيين لمراجعة ملفاتها المتعلقة بالتحقيقات مع الموقوفين المشتبه في تعاملهم مع الاستخبارات الإسرائيلية، الذين وصل عددهم إلى حدّ غير مسبوق منذ تحرير الجنوب عام 2000. ويوم أول من أمس، عاودت مديرية استخبارات الجيش استدعاء أحد العقداء (يخدم في قطعة غير عملانية) لتحديد طبيعة علاقته بالعقيد الموقوف «م. د.»، علماً بأنها ليست المرة الأولى التي يخضع فيها العقيد الأول للتحقيق منذ توقيف زميله قبل 9 أيام.
وفي السياق ذاته، ادّعى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر، يوم أول من أمس، على الموقوف ز. ح. (الرئيس السابق لبلدية سعدنايل) بجرم «التعامل مع العدو الإسرائيلي، ودسّ الدسائس لديه، ومعاونته على فوز قواته، وإعطاء معلومات عن مواقع مدنية وعسكرية وشخصيات سياسية وحزبية»، بحسب ما ورد في نص الادّعاء، سنداً إلى مواد تصل عقوبتها القصوى إلى الإعدام. وادّعت النيابة العامة أيضاً على الموقوف ز. س. (من بلدة شبعا، أوقفه فرع المعلومات قبل حوالى 10 أيام)، وعلى 8 أشخاص موقوفين لدى المديرية العامة للأمن العام، بينهم عريف في الجمارك.
توقيف أكثر من 35 مشتبهاً فيه، بينهم أمنيون وعسكريون، ليس آخر المطاف، بحسب أمنيين متابعين لملف التجسس. فما هو مكتشف وغير مكشوف «أخطر مما حكي عنه حتى اليوم»، كما يقول الأمنيون أنفسهم.
لكن، ما الذي أوصل الشبكات إلى هذا القدر من الاتساع؟ يجيب أمنيون معنيون بأن الأجهزة الأمنية اللبنانية، بسبب ضعف إمكاناتها، لم تكن قادرة على توزيع جهدها خلال الأعوام الأربعة الماضية، فصبّته على مكافحة موجة الإرهاب والتفجيرات والاغتيالات التي ضربت البلاد. ويشير هؤلاء إلى مديرية استخبارات الجيش التي تعاني ضعفاً في العدد والإمكانات، «نتيجة إهمال السلطة السياسية لها. فالأخيرة لم تتخذ يوماً قراراً جدّياً بمواجهة الخطر الأمني الإسرائيلي. وهي في هذا الأمر منسجمة مع نفسها في المجالين الأمني والعسكري، إذ إنها كما لم تبذل أي جهد لمحاولة جعل الجيش قادراً على مواجهة الخطر العسكري الإسرائيلي، فإنها لم تتخذ أي خطوة تذكر لدعم مديرية الاستخبارات التي يجب عليها مواجهة أحد أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم».
أمر آخر يتحدّث أمنيون (من مختلف الأجهزة) عن كونه أحد أبرز العوامل التي جعلت عدداً كبيراً من العملاء الموقوفين خلال السنوات التسع الماضية يتجنّدون للعمل لحساب الإسرائيليين، أو يستمرون بهذا العمل وهم مطمئنون إلى مصيرهم، ويتمثل هذا العامل بالأحكام المخفّفة التي صدرت بحق أكثر من 3500 متعامل مع الاستخبارات الإسرائيلية وميليشيا أنطوان لحد عقب تحرير الجنوب عام 2000. ووصل الأمر بأحد المسؤولين القضائيين إلى وصف ما جرى قبل 9 سنوات في المحكمة العسكرية بأنه «تعتير بتعتير». لكن ما الذي دفع القضاء العسكري لأن يكون رحوماً بحق العملاء والمتعاونين معهم ومع جهازهم الأمني؟ بداية، لا بد من التذكير بأن الطبقة السياسية انقسمت على نفسها بعد التحرير حيال التعامل مع ملف العملاء. كان حزب الله يطالب بالتشدد في الأحكام القضائية التي ستصدر بحق العملاء، بعدما أصدر الحزب «عفواً» ميدانياً عنهم. لكنّ فريقاً سياسياً واسعاً تبنّى خطاباً يبرّئ العملاء والمتعاونين معهم من أيّ جرم، بذريعة أنهم اضطروا إلى التعامل مع إسرائيل لأن الدولة اللبنانية تخلّت عنهم. ورغم ما يقال عن تدخّلات سياسية في الملف المذكور، فإن رئيس المحكمة العسكرية في تلك الفترة العميد المتقاعد ماهر صفي ينفي ذلك، ويذهب بعيداً ليتبنّى وحده مسؤولية الأحكام المخففة بحق العملاء. ويقول صفي الدين إن الانقسام السياسي في البلاد حينذاك دفعه إلى اعتماد قاعدة الوسطية. فبين مطالبة حزب الله بالتشدد من جهة، والبطريرك صفير «الذي هاجمني في إحدى خطبه من الجهة المقابلة، اخترنا ألا نتشدد بحق أحد وألا نبرّئ من تعاملوا مع إسرائيل». ويسأل صفي الدين: هل كان مطلوباً أن نعدم الجميع؟ قبل أن يجيب برفع جزء من المسؤولية عن نفسه، مذكّراً بأنه أصدر أحكاماً بالسجن المؤبّد على من أظهرت التحقيقات أن أيديهم ملطخة بالدم. «لكنّ محكمة التمييز العسكرية عادت وخفضت هذه الأحكام. إضافة إلى ذلك، فإن بعض الملفات كانت تصل فارغة إلى المحكمة، لأن الاستجوابات حصلت على عجل، وكان أهل الجنوب يعرفون عن بعض العملاء أكثر مما ورد في التحقيقات التي أجريت معهم في مديرية استخبارات الجيش».
ما قاله صفي الدين عن التسرّع في التحقيق مع العملاء عام 2000 لا ينفيه عدد من الأمنيين، لكنهم يشيرون إلى أن ذلك لا يعفي المحكمة العسكرية من مسؤوليتها. ويضرب هؤلاء مثلاً بالقول إن العميل الذي أصدرت المحكمة العسكرية (بهيئتها الحالية) حكماً بسجنه 10 سنوات يوم 22 أيار 2009، لم يكن لينال حكماً بالسجن لأكثر من 6 أشهر فيما لو كان من الذين حوكموا عقب تحرير الجنوب عام 2000.

إلى أين تتجه الأمور اليوم؟

في القضاء العسكري، يعد مسؤولون بالتشدّد في الأحكام لا في إجراءات التقاضي. فمن يدان بالأدلة القاطعة سينال أقصى العقوبات. وهنا يشرح معنيون أن بعض الملفات متينة جداً، وهو ما قد يمكّن المحكمة من إنزال أشد العقوبات بحق المتهمين إذا أدينوا. ويسمّي هؤلاء عدداً من المتهمين والموقوفين والمدّعى عليهم، وأبرزهم م. ر. الذي أقرّ بمشاركته عام 2006 في اغتيال الأخوين المجذوب في صيدا، والمدّعى عليه ح. ش. (أوقفه فرع المعلومات يوم 8 أيار الماضي في بلدة الغازية الجنوبية) الذي اعترف بإعطاء إحداثيات أحد منازل الغازية للإسرائيليين، فتعرّض المنزل للقصف واستشهدت عائلة في داخله. وخلال تشييع الشهداء، اتصل بالإسرائيليين ليقول لهم إن مسؤولين من المقاومة يشاركون في الجنازة، فتعرّض موكب التشييع للقصف الإسرائيلي أيضاً.
أما على صعيد الأجهزة الأمنية، ففرع المعلومات مستمر في العمل على حسم الملف الموجود في حوزته، والمتعلّق في الدرجة الأولى بعشرات الأرقام الهاتفية التي يشتبه في أن الإسرائيليين زوّدوا عملاءهم بها. بدورها، زادت المديرية العامة للأمن العام عددَ المحققين الذين يستجوبون الموقوفين بشبهة التجسس. ويؤكد مسؤول كبير في المديرية أنها ستزيد من زخم عملها بعد ختم الملفات الموجودة بين يديها، والانتهاء من الإجراءات المتعلقة بالإعداد للانتخابات النيابية. أما مديرية استخبارات الجيش، التي تمثّل العمود الفقري لأجهزة مكافحة التجسس، فماضية في عملها إلى نهايته. وهي تحظى بثقة قائد الجيش وتغطيته (وهو ما بدا جلياً في النشرة التوزيعية التي عمّمت على العسكريين يوم أول من أمس) ومستمرة بالتنسيق في هذا الملف مع المقاومة على أعلى المستويات. أما القرار السياسي الذي سيوفّر لها دعماً لوجستياً ومادياً، فمؤجّل إلى ما بعد الانتخابات النيابية، علماً بأن قرار متابعة الحملة على الشبكات الإسرائيلية لن يتأثر بنتائج الاقتراع. فالمعركة الحالية، بحسب مسؤول أمني رفيع، تستهدف عيون الإسرائيليين في لبنان.