لا شيء يعجّل في نهاية الأزمنة أكثر من رحيل الكبار. تسترعي فكرة الزمن الجميل الانتباه دوماً، فهي أشبه بثيمةٍ مدهشةٍ لدى رحيل أحد الأعمدة لأيّ فنٍّ عموماً، فكيف إذا كان هذا الفن هو الفن السابع: السينما. رحلت فاتن حمامة التي لقّبت بالجميلة التي تكاد تنكسر كلما أطلت على الشاشة، وأعطيت لقب «سيدة الشاشة العربية»عن جدارة. وكانت قد ابتعدت عن الشاشة، حارمةً جيلاً بأكمله من إطلالتها ومقدرتها الفذة على العطاء. هو خيارها لا شكّ، لكن الخسارة كانت أكبر برحيلها المفاجئ كي يبدأ هذا العام بحزنٍ كثير.
لربما لم يُشاهد كثيرون فيلم «يوم سعيد» (إخراج محمد كريم)، وهو أوّل فيلمٍ لفاتن (في دور الطفلة أنيسة عام 1940). الفيلم الذي تقاضت عنه جنيهاً واحداً كان بوابتها إلى العالم السينمائي الذي ستضحي من رموزه لاحقاً. والدها أحمد، كان يعشق السينما وكان يأخذها لمشاهدة السينما معه. ربما كان يشعر بأهمية ابنته وموهبتها، لذلك سمح لها بالمشاركة في مسابقة لاختيار أجمل طفلة مصرية. هذا الأمر أهّلها للمشاركة مع محمد عبد الوهاب الذي كان «نجم شباك» وقتها.
كان فيلم «موعد مع الحياة»
سبباً في إطلاق لقب «سيدة
الشاشة العربية»
أعجب بقوّة شخصيتها ليعود بعد أربع سنواتٍ طالباً منها أن تشارك في فيلمه «رصاصة في القلب» (إخراج محمد كريم وكتابة توفيق الحكيم) دور شقيقة الممثلة راقية إبراهيم. أجرُ فاتن تحوّل من جنيهٍ إلى خمسين بين فيلمين فقط. هذا التصاعد في أجرها، سيظلّ مواظباً معها فيلماً بعد فيلم. جاء بعد ذلك دور النجم يوسف وهبي لترشيحها لتشارك في فيلم «ملاك الرحمة» (كتابة وإخراج يوسف وهبي ـ 1946) الذي عزّز حضور الصبية الموهوبة. كل ذلك وهي لم تدخل بعد «كلية سينما» أو تدرسها (عادت ودخلت معهد التمثيل ضمن دفعته الأولى مع نجومٍ كبار على غرار فريد شوقي، وشكري سرحان).
ارتفع أداء فاتن كثيراً خلال السنوات التي تلت. كانت تعاني خللاً بسيطاً في نطق الراء (كانت تلفظها غيناً)، لكن سرعان ما تجاوزت هذه المشكلة عبر تدريب مكثّف من المخرج الراحل زكي طليمات (1894 - 1982). امتاز أداؤها في المرحلة الأولى من حياتها الفنية بتجسيد دور الفتاة المسكينة والضعيفة. سرعان ما تنبّهت إلى أنه مستهلك وسيقتل مهنتها سريعاً، لتخرج من تلك العباءة ببداهةٍ وحذاقة، فقدّمت شخصيات شديدة الاختلاف والتميّز. في عام 1952، قدّمت فيلمها «الأستاذة فاطمة» (كتابة علي الزرقاني وإخراج فطين عبد الوهاب) مع النجم كمال الشناوي. أدّت الراحلة دور الفتاة القادمة من عائلة متوسطة الدخل، تقرّر فتح مكتب محاماة خاص بها، لكنها تفشل لعدم ثقة المجتمع الذكوري بمحامية لتعود وتنجح في نهاية الفيلم. بعدها بعامين، أي في 1954، قدمت فيلم «صراع في الوادي» (كتابة حلمي حليم وإخراج يوسف شاهين)، وكان يجمعها بزوجها –لاحقاً- عمر الشريف. أدت شخصيةً غير اعتيادية لابنة الباشا التي تتعاطف مع الفقراء والمساكين وتعمل لأجلهم. شارك الفيلم لاحقاً في «مهرجان كان السينمائي». ولأنه لا بدّ من أن يكون هناك سبب خلف الألقاب، فقد كان فيلم «موعد مع الحياة» (كتابة وإخراج عز الدين ذو الفقارـ 1953) سبباً في إطلاق لقب «سيدة الشاشة العربية»، إذ وصلت بحسب الصحف آنذاك إلى قمّة مجدها كنجمة شباك.
ولا يمكن الحديث عن عام 1955، إلا بتذكر فيلمها «أيامنا الحلوة» (كتابة إخراج حلمي حليم) الذي جمعها مع الثلاثي عمر الشريف، عبد الحليم حافظ، وأحمد رمزي. حقّق الفيلم نجاحاً باهراً، خصوصاً لجهة الرقة والعذوبة اللتين أظهرتهما في رسم الشخصية الرئيسية. ولأن الحرفة تدفع الفنان بعيداً عن دائرة الراحة، اختارت فاتن واحداً من أصعب الأدوار في فيلمها «لا أنام» (عن قصة الكاتب إحسان عبد القدوس وإخراج صلاح أبو سيف) عام 1957، فأدّت شخصية الفتاة التي تعيش عقدة «الكترا» النفسية، فتعبث بحياة والدها في تملكٍ خاص. وفي العام الذي تلاه، أصرّت على أن تعيد إلى الواجهة قضية الزواج العبثي من خلال دورها في «سيدة القصر» (كتابة حسين حلمي المهندس وإخراج كمال الشيخ) مع زوجها آنذاك عمر الشريف، عن زوجٍ مستهتر يهوى النساء، فيتزوّجها ليُرضي غروره رامياً إياها في القصر. أما عام 1959، فقد شهد نضجها الفني على كل الصعد. يومها قدمت «دعاء الكروان» (إخراج هنري بركات وكتابة طه حسين) الذي صنّف في المركز السادس ضمن قائمة أفضل مئة فيلم مصري عبر التاريخ. كانت الشخصية معقدة للغاية. استطاعت حمامة أن ترسم الصراع بين أن تكون قاتلة مغتصب شقيقتها، وبين أن تكون حبيبته. أتى بعد ذلك فيلم «نهر الحب» (إخراج عز الدين ذو الفقار) عام 1961، مقتبساً عن قصة الروسي ليو تولستوي «آنا كارنينا». حاولت فاتن تعريب البطلة وتشريقها، وفي هذا نقاشٌ كبير عن نجاحها في ذلك أو لا. كان فيلم «الخيط الرفيع» (إخراج هنري بركات وكتابة إحسان عبد القدوس - 1971) نقلةً نوعيةً في حياتها. قصةٍ شديدة التعقيد، وأداء مختلفٍ عن معتادها، فكانت المرأة اللعوب، والقوية، المسيطرة التي تصنع الرجل، ثم تحطمه. كان الفيلم من أوائل لقاءاتها بمحمود ياسين التي ستتكرّر أكثر من مرةٍ في ما بعد. تبع ذلك فيلم «إمبراطورية ميم» (إخراج حسين كمال 1972) عن قصة لإحسان عبد القدوس مجسّدةً دور امرأة تحاول تربية أطفالها من دون زوجها في إطارٍ كوميدي مرح. وفي الأجواء نفسها، قدّمت فيلمها الرومانسي الأجمل «حبيبتي» (إخراج هنري بركات وحوار عبد الحي أديب ـ 1974 أمام محمود ياسين) الذي صوّر في بيروت، فكانت شخصية الفتاة التي تكذب. ورغم هذا، أحبّها الجمهور وتعلّق بها. عادت فاتن لترفع المستوى أكثر من خلال دورها في فيلم «أريد حلاً» (إخراج سعيد مرزوق ـ 1975) الذي طرح قضية الطلاق والظلم الذي يواجه المرأة في حياتها الزوجية وكيفية تعامل القانون معها. ورغم أنها قدّمت دور الحبيبة أمام محمود ياسين قبل ثلاث سنوات فقط، عادت وقدّمت دوراً أكثر صعوبة أمامه في «أفواه وأرانب» (كتابة سمير عبد العظيم وإخراج هنري بركات) فجسدت ابنة القرية في علاقتها الملتبسة بعائلتها وبابن الباشا.
شهدت ثمانينيات القرن الماضي خفوتاً في نشاط «سيدة الشاشة العربية»، لكن ذلك لم يحدّ من نجوميتها شيئاً. قدمت رائعتها «ليلة القبض على فاطمة» (إخراج هنري بركات ـ 1984) عن قصة سكينة فؤاد في شخصية امرأة تساعد المقاومة وشقيقها بشكلٍ عرضي، لتقابل بالجحود والنكران من قبله. صورت حمامة بعد ذلك فيلمها «أرض الأحلام» (كتابة هاني فوزي وإخراج داود عبد السيد) الذي عُدّ الأقل مهارةً بين أفلامها، ولو أنّها ظلت تحتفظ بذلك الصوت الخلاب والحضور المهيب بين الجمهور، إلا أن ضعف العمل ككل أدّى إلى فشله رغم انتظاره طويلاً من قبل عشاقها وعشاق السينما. ترحل فاتن حمامة، تاركةً إرثاً كبيراً لعشاق الفن السابع، وهو الأمر الوحيد الذي يجعل الفراق أقل وطأةً.