كان من الطبيعي أن تنتظر أوساط سياسية مطّلعة مرور 48 ساعة على استهداف إسرائيل قوة تابعة لحزب الله في القنيطرة السورية، من أجل قراءة أولى لمعنى الضربة وخلفياتها. فمن المبكر الإحاطة بكامل ما يمتّ بصلة إلى عملية نوعية بهذا الشكل، وخصوصاً لجهة التبسيط واعتبار أنها جاءت رداً على كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. وفق ذلك، تقول هذه الأوساط إن السؤال المحوري، بعد عملية بهذا الحجم، لا يجب أن يكون كيف سيرد حزب الله وأين، كما هي العادة، بل لماذا هذا الاستهداف مكاناً وزماناً، وما هي خلفياته وارتباطاته الاقليمية والدولية، ما دامت إسرائيل تعرف أن عملية على هذا المستوى لن تكون بلا رد على المستوى نفسه.
تنقسم قراءة هذه الأوساط إلى شقين: الأول إقليمي سياسي، والثاني أمني لبناني ــــ سوري.
ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها إسرائيل في مسار الحرب الدائرة في سوريا، من دون أن يكون لدخولها في السنوات الثلاث الماضية تأثير كبير في مجريات الحرب السورية وترجيح كفة الميزان لمصلحة أي من أطراف الصراع. وكذلك فهي ليست المرة الأولى التي تقصف الطائرات الإسرائيلية أهدافاً تقول إنها إما شحنات أسلحة إيرانية لحزب الله (2013) أو قافلة سيارات قرب الحدود اللبنانية ــــ السورية قالت إنها تنقل أسلحة سورية إلى الحزب (2014).
وبين التعتيم على ماهية الأهداف المستهدفة والتهديدات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله، ظل التوتر بين الطرفين مضبوط الإيقاع، ولم يقترب من الأراضي اللبنانية، لأن أي لعب إسرائيلي بالنار اللبنانية له مترتبات أخرى، تختلف عن مجريات الحرب السورية ويومياتها. الاستثناء الوحيد، كما رددت معلومات في حينه، حين اندلعت معركة جرد بريتال في تشرين الأول الفائت، بغضّ نظر إسرائيلي وتسهيل معلوماتي وأمني، فردّ حزب الله بعملية ضد دورية إسرائيلية في شبعا.
ما جرى في القنيطرة، كسر الإيقاع الأمني والعسكري بين الطرفين. فللمرة الأولى تقصف إسرائيل موكباً «معروفاً» ويضم شخصيات عسكرية، وليس قافلة أسلحة كما جرت العادة. وللمرة الأولى يسارع حزب الله إلى إعلان الضربة وإصدار بيان النعي بشهدائه، وكذلك فعلت إيران في خطوة لافتة.
الهجوم رسالة
اعتراض قوية على مسار المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية المتقدمة


من الواضح أن العملية لا تهدف إلى تغيير المعادلات في سوريا، وخصوصاً لجهة دور حزب الله فيها. لكن نوعيتها ومستواها، قد تكون لهما صلة بالمفاوضات الأميركية ــــ الإيرانية حول الملف النووي أولاً، وملفات دول المنطقة ثانياً. فالمعلومات الغربية شبه الأكيدة، أنه بات مسلّماً به امتلاك إيران طاقة نووية سلمية، وكذلك حرص الولايات المتحدة على توطيد العلاقة مع إيران. لكن المشكلة العالقة تكمن في كيفية هضم إسرائيل والدول العربية الحليفة لواشنطن للاتفاق الموعود أو الحوار الثنائي الذي يحمل في طياته بنوداً تتعلق بوضع دول الشرق الأوسط. وبات متعارفاً عليه، في كثير من الدوائر الغربية، أن الحوار مع إيران حول هذه الدول يسير بخطى ثابتة، لإيجاد حلول للأزمات المتفجرة فيها. وبما أن واشنطن أخرجت نهائياً من قاموسها فكرة أي دخول للجيش الأميركي على الأرض، فهي تراهن على دور السعودية وتركيا وإيران للعب دور فاعل في إدارة الصراعات الشرق أوسطية أو إيجاد حلول لها. لكن بقدر ما أن واشنطن وطهران حريصتان على استكمال الحوار بينهما، تعجز تركيا والسعودية ومعهما إسرائيل عن التأقلم مع فكرة الحوار أساساً ولا مع احتمال وصوله إلى نتائج إيجابية، وترددات ذلك على أوضاع سوريا والعراق ولبنان معهما.
عند هذه النقطة يمكن فهم العملية الإسرائيلية في القنيطرة، وليس في لبنان، بكونها رسالة اعتراض إسرائيلية قوية على مسار المفاوضات الأميركية ــــ الإيرانية المتقدمة، التي يشكل حزب الله ومستقبله ودوره النقطة العالقة فيها. فالحزب هو الخاصرة القوية لإيران على المتوسط، ولا يمكنها، رغم الضغوط التي تتعرض لها، أن تفرّط بورقته، وخصوصاً أنها لا تستطيع أن تراهن على المدى البعيد على ورقة سوريا، في ظل تدخلات عربية ودولية وأصولية فيها، فيما فقدت أُحادية دورها في العراق.
ومن اللافت أن العملية أتت بعد أيام على اللقاءات المتكررة بين وزيري الخارجية الأميركي والإيراني جون كيري ومحمد جواد ظريف وسط أجواء ودّ بينهما، وبعد تأكيد الرئيس الأميركي باراك أوباما أنه سيستخدم حق الفيتو ضد أي محاولة للكونغرس لفرض عقوبات جديدة على إيران. لا تبارك إسرائيل هذا الحوار حكماً، إلا أنها تريد على ما يظهر من إشارات أولية، حصر الاعتراض القوي عليه بمكان وزمان محددين، فأتت العملية في القنيطرة بكل ما تحمله من أبعاد جغرافية وسياسية وأمنية، وليس في لبنان. والهدف تكبير دائرة الخطر ورفع درجة التهويل على الحزب وإيران وواشنطن، لكن مع بقاء الرسائل المتبادلة محدودة، فلا تتوسع دائرتها في اتجاه إشعال جبهة الجنوب، ما ينذر بحرب لا قدرة لأي طرف دولي اليوم على تحمل تبعاتها.
اختيار القنيطرة كمسرح للعملية، يتعدى القدرة العسكرية واللوجيستية التي مكنت إسرائيل، بمساعدة محلية، من توجيه مثل هذه الضربة، لأن المنطقة تمثل جغرافياً سيفاً مصلتاً على حزب الله ولبنان، إذا ما سهلت إسرائيل الوضع على المعارضين السوريين، وغضت الطرف عن تقدم «النصرة» (وهي التي تستقبل جرحاها في مستشفياتها) والمجموعات الإسلامية الأخرى، من أجل الاقتراب من دمشق. فسقوط المنطقة السورية الحدودية يعني حكماً وضع حدود لبنان الشرقية من شبعا صعوداً في اتجاه المصنع وعنجر في دائرة الخطر، مع إمكان انفتاح شهية التنظيمات السورية على الاقتراب من منطقة تمدد حزب الله، الذي لن يقف متفرجاً على احتمال الاقتراب من مناطق تعد في قلب دفاعاته ضد إسرائيل في الجنوب الشرقي.
والخشية التي تبديها الأوساط المعنية هي في أن يكبر بذلك نطاق عمليات عرسال، وخصوصاً أن المنطقة الممتدة من شبعا صعوداً، مناطق ذات غالبية سُنية تعادي في شكل واسع حزب الله وتدخله في سوريا، ما يمكن أن يشكل خطراً مزدوجاً من الجهتين السورية واللبنانية. وهذا يعني أن الحزب سيكون بين فكي كماشة التنظيمات الأصولية من جهة والتهديدات الإسرائيلية من جهة ثانية. وهنا يمكن الاعتقاد بأن وضع الحزب بين نارين يفتح باب التكهنات والأسئلة عمّا إذا كانت الحرب على الحزب باتت مطلوبة، بما يتعدى التحذير من إبقاء منطقة الجولان تحت مرمى إسرائيل وحدها.