باكراً جدّاً، بدا سلوك الجماعات الإرهابية في الجنوب السوري مختلفاً عن النسق العام للحراك المسلّح في سوريا. فمع استعار المواجهات مع الجيش السوري، اعتمد الإرهابيون منهجية عمل واضحة باستهداف آلية انتشار الجيش في درعا والقنيطرة، التي بُنيت منذ اتفاقية فضّ الاشتباك بين سوريا والكيان العبري في أيار 1974، على التوازن الميداني، عدّة وعديداً، مع قواته المنتشرة في الجولان المحتل وجبل الشيخ.
وسرعان ما بدأ الإرهابيون بالتدمير الممنهج لأنظمة الدفاع الجوي ومراكز الرصد والاستطلاع المبكر، واستهداف الألوية المستقلة في خطوط الدفاع السورية الأولى، كاللواءين 61 و90. ومع انكشاف التورّط الإسرائيلي بفعل سياق الحرب، ظهر عمق الإدارة والتنسيق بين قيادات الجماعات المسلحة، لا سيّما «جبهة النصرة»، فرع تنظيم القاعدة في سوريا، وإسرائيل. ومؤخّراً، لم تعد تجد الصحافة الإسرائيلية، ومن خلفها «الرقيب العسكري»، حرجاً في نشر طبيعة هذه العلاقة، من سعي الاستخبارات العسكرية «أمان» بالتكافل والتضامن مع الاستخبارات الأردنية لتوحيد المسلحين في الجنوب، إلى الدعم بالسلاح والمال وأجهزة الاتصال وبعض حالات الدعم الميداني المباشر خلال المعارك، بعد أن كان الدعم يقتصر في الإعلام على علاج الجرحى وتقديم المساعدات الإغاثية. ويأتي هذا الوضوح مع تقارير الأمم المتحّدة حول التعاون بين إسرائيل والمسلحين، ثمّ المعلومات عن دور إسرائيل في التخطيط لإسقاط «تل الحارة» الاستراتيجي عبر الإرهابيين بالتعاون مع وكالة الاستخبارات الأميركية، في مقابل التعاون السوري ــ الروسي ــ الإيراني في الموقع.
زيارات ضباط
إسرائيليين لقرى في القنيطرة ليست خافية على أمن المقاومة


بالنسبة إلى الأجهزة الأمنية السورية وجهاز أمن المقاومة، لا يبدو التعاون بين الإرهابيين وإسرائيل غريباً في سياق الصراع، منذ بدأت ملامح محور المقاومة بالتشكّل على النحو الذي نعرف. فإسرائيل لطالما نظرت إلى الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة كجبهة واحدة من الناقورة إلى السويداء، بفعل التداخل الطوبوغرافي بين لبنان وسوريا، ولو أن الجبهة السورية كانت في سبات مؤقّت بفعل الظروف السياسية لسوريا، والواقع الجغرافي لميدان الجولان، المختلف تماماً عن جغرافيا وسط وغرب الجنوب اللبناني. فواقع الجولان يسمح للإسرائيلي بإشراف ورصد متقدّم لكلّ المواقع الحساسة جنوبي دمشق، من موقع المرصد في جبل الشيخ. كذلك فإن إصرار إسرائيل على الحفاظ على مرتفعات مزارع شبعا، هو انعكاس لهاجس فقدان التحكّم الجغرافي منذ ما بعد تحرير الجنوب عام 2000. فبالنسبة إلى سوريا ولبنان لا تشكّل المزارع مسألة سيادية فحسب، بل حاجة عسكرية وأمنية لإكمال مشروع التحرير.
غير أن القلق العسكري الاستراتيجي الإسرائيلي الذي تشكّل مع هزيمة 2006، أدخل الجماعات الإرهابية في حسابات إسرائيل، كمصادر إنقاذ، فيما دفع دخول الإرهابيين على الخطّ وحالة الضعف التي أصابت الجيش في الجنوب، الدولة السورية إلى اعتماد الصيغة اللبنانية وفتح الباب واسعاً أمام بناء استراتيجية مقاومة جديدة، خارج اتفاقية «فضّ الاشتباك»، التي رحلت إلى غير رجعة.
وجريمة اغتيال قادة المقاومة في القنيطرة يوم الأحد، بمعزلٍ عن التحليل السياسي، لا تخرج عن سياق الحاجة الأمنية الميدانية الإسرائيلية لفرملة انطلاق المقاومة في الجولان، التي سبق أن اتخذت الدولة السورية قراراً بها، وعبّر عنها بشكل واضح الرئيس بشّار الأسد في نهاية عام 2013، ثمّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله . وإعلان الأسد عن النيّة، كان سبقه بنصف عامٍ على الأقل إعطاء الضوء الأخضر لحزب الله للبدء بإعداد أرضية مؤهّلة من أبناء الجولان لتنفيذ عمليات ضدّ قوات الاحتلال تجعل الفوضى التي أحدثتها إسرائيل في الجولان عامل قوّة لمحور المقاومة في سياق الصراع.
بالعودة إلى جريمة الأحد، التي تحسن إسرائيل الآن انتظار الردّ المحتّم عليها، فإنها عملياً لم تحقّق إنجازاً أمنياً خارقاً، بل عبّرت عن امتلاكها جرأة نابعة من الخوف الاستراتيجي، والجرأة قدّمت الأمن على السياسة. والتجارب تؤكّد أن استشهاد القادة لا يعيق عمل المقاومة، بل يغذّيه، إذ لم تكن هذه الزيارة للقادة الشهداء إلى القنيطرة وجبل الشيخ الأولى، بل في سياق روتيني عادي لاستطلاع الجبهة. والحضور إلى قرى الجولان وجبل الشيخ لا يتمّ بسريّة، ويتضمن عدّة زيارات لا تخفى حتى على مخاتير القرى، فكيف على عملاء إسرائيل ومراصدها! فضلاً عن أن واقع الميدان المشتعل دائماً، يحتّم التنسيق بين مختلف الفصائل المقاتلة على الأرض، عبر الأجهزة اللاسلكية والهواتف، في ظلّ السيطرة الإلكترونية للإسرائيلي في الجولان، ووجود محاور القتال في بعض الأماكن على بعد أمتار من محاور الإرهابيين. وبالمناسبة، زيارات ضباط «أمان» لبلدة الرفيد جنوب القنيطرة ليست سرّاً على أجهزة الأمن السورية وأمن المقاومة، لا سيّما قبل أيام من هجوم الإرهابيين على تلّ الجابية، أو عندما يدخلون برفقة عناصر «النصرة» إلى سحم الجولان أو جباتا الخشب.