عزيزي أنسي،ها قد مرّ عامٌ على أولى كتاباتي عنك. لم أشعر بمرور كل هذه الأيام، هل شعرت أنت بذلك؟ لا أعلم إن كان الزمن لديك ينقضي بالسرعة ذاتها كما هنا. بالأحرى، لا أعلم ولا أكترث. كلّ ما يهمّ «الأحياء» هو مرور زمنهم الخاص، لا زمن من رحلوا حتى لو كانوا مقرّبين. وأنت لست مقرّباً إلى هذا الحد. لست كاتبي المفضل لو أردت الصراحة. أنت أحدهم بلا شك، ولكنك لست المفضل.

ربما لا يصلح المقطع السابق كافتتاحية تليق بذكراك الأولى. ولكن هذا ما خطر لي فور أن كُلّفت بكتابة رسالة إليك. لا أنكر بأنني كنت أريد التهرّب من هذا «الواجب»، لكنّني غيّرت رأيي وقررت أن أكتب ما أشعر به بكل صراحة. في الحقيقة، لو أردت صراحةً أكبر، كنت أريد أن أفتتح الرسالة بالقول «لمَ متّ منذ عام لتضعني الآن في هذا الموقف السخيف»، إذ وجدتُ بأنّ السخافة تليق أحياناً بهذا العام الذي انقضى، فقرّرت المضي في الكتابة بضمير مرتاح، بخاصة أنّك لن تتمكّن من الرد عليّ. أو هذا ما أعرفه، على الأقل، عن عالمك الآن. رسائل لا تصلح إلا للتجاهل وعدم إمكانية الرد. شعور رائع برأيي. ولذا، سنُبقي الأمور على ما هي عليه. لنتحدث عن البداية، وعن الافتتاحيّات.
«الوليمة» هي أنسي، كما
«النهايات» هي عبد الرحمن منيف، و«يا طول عذابي» هي أم كلثوم

عرفتك منذ عشر سنوات. لم يكن ابن التاسعة عشرة حينذاك يعرف عنك أكثر من عنوان مغر لمجموعتك الأولى «لن»، وتاريخ طويل مع جريدة «النهار». لم أقرأ «لن» في البداية، ولم أتشجع لقراءتك إذ ارتبط اسمك بجريدة أكرهها، إلى أن تعثّرت بـ «الوليمة». كان «الوليمة» أول ديوان أقرؤه لك. قرأته بموقف كاره مسبق للأسباب السابقة، عدا عن عنوانه «غير الشعريّ»، إضافة إلى تشابه غلافه مع غلاف ديوان لمحمود درويش، وهو كان شاعري المفضّل آنذاك. كان الغلافان متماثلين تقريباً: «الوليمة» و»لماذا تركت الحصان وحيداً». أدركت لاحقاً بأنّ التماثل لم يكن يقتصر على الغلاف، إذ كان كلا الكتابين انطلاقة جديدة لكلّ منكما، ولذا عشقت الكتابين بالدرجة ذاتها، بل عشقت «الوليمة» على نحو أكبر لأنه فتح أمامي بوابة جديدة لقراءة شعر «جديد». لا أعني الشكل هنا، ولا المضمون حتى، بل سحر اللغة، وبراعة المخيّلة، وإغواء الشعر حين يدور حول المرأة بطريقة أنسي الخاصة، حيث تكون فيه المرأة ولا تكون، وحيث يكون الشعر الحقيقي في آخر مكان يمكن أن تتوقّعه، وآخر عنوان قد يخطر في ذهنك. ثم كان «خواتم» الذي استند إليه مقالي عنك قبل عام: كان حواراً من طرف واحد، إذ كنت قد رحلت، وكان الحوار مع «خواتمك». في هذا الحد الفاصل بين عالمين، كان لقاؤنا الأول، والآن رسالتنا الأولى. بين عالمٍ زائلٍ للأحياء، وعالمٍ قصيٍّ للراحلين.
أعدت قراءتك مرات عدة خلال هذه السنوات العشر لأثبت لنفسي مدى سذاجتي وحماقة مواقفي المسبقة. كنتُ في اندفاعة الشباب الجامحة آنذاك حيث لا حيّز لدرجات الألوان، ولا مكان لجزيرة في المحيط المتلاطم. أدركت لاحقاً (في السنة الأخيرة خصوصاً) بأنّ تلك السذاجة والحماقة تسم مجتمعنا بأسره. أتحدث عن المجتمعين السوري واللبناني على الأقل. كارهوك بالأمس أحبّوك اليوم لأنك أصبحت في «الأخبار»، وكانوا سيكرهونك لو انتقلت إلى تلك الصحيفة قطرية التمويل. ومحبوك بالأمس كرهوك اليوم وكانوا سيحبّونك غداً ربما لولا أنك فاجأت الجميع فرحلت، لتبقى ذلك «الأنقى» من بين جميع فرسان مجلة «شعر»، ولتبقى بعيداً عن كلّ من حاول تصنيفك. «من يصنّفك يقتلك»، هذا ما كنتَ تؤكّده دوماً، لذا لم يستطيعوا قتلك إلى اليوم.
سيتذكّر معظم قرائك أو حتّى حفظة العناوين من «مثقفينا» كتبك الشهيرة، وسيغفلون عن «الوليمة». ولذا سأُفشي سرّك لمن يريد قراءتك فعلاً. «الوليمة» هي أنسي، كما «النهايات» هي عبد الرحمن منيف، كما «الاعترافات» هي ربيع جابر، كما «النحنحات» هي إبراهيم صموئيل، كما «يا طول عذابي» هي أم كلثوم، وكما «اسقنيها» هي أسمهان. تلك الأعمال شبه المنسيّة هي ما سيتبقى بعد امتلاء الذاكرة بالعناوين المكرّسة. تلك الهمسات هي ما سيتبقى بعد تلاشي الصخب. ولذا ستبقى أنت، حتى بعد مرور سنوات وسنوات على الرحيل، كما العطر، دون أن يكون ثمّة معنى للعلب التي وضعوك فيها، بصرف النظر عن بهرجتها.