عزمي عبد الوهاب * جئت إليك من مصر، من وادي النيل، من ريف الدلتا، حيث يصاب أبناء الفلاحين بالبلهارسيا، ليقيدوا في دفاتر الموتى، منذ طفولتهم، لأن شيئاً في أعماقهم ينزف باستمرار، ويظل ينزف إلى أن يُواروا الثرى. غرباء في حياتهم وفي مماتهم، يمرون خفيفين من دون أن يراهم أحد، حتى لو كانوا يكتبون قصيدة النثر التي طالعوها في دفاترك، ورطنوا بتنظيراتها التي قرأوها في مقدمة «لن» ليواجهوا الشيوخ المسنين حجة بحجة.

جئت إليك من ثقافة تحترف كتابة الرسائل على الجدران، وفي دورات المياه العمومية، وتترك ما تريده على باب الرجاء في أضرحة أولياء الله الصالحين. ثقافة تقدس الموت في «كتاب الموتى» وتسميه في صياغة أخرى «الخروج إلى النهار». نحن إذن نكتب قصيدة النثر مثلهم ومثلك.
مَنحْتنَا أنت الخيط والورق، لنصنع طائرات ملونة، لكننا طرنا بها في سماء بعيدة عن سمائك. ألسنا ـ يا محطم الأوثان وحابس الكهنة في كهوفهم ــ أحفاد اخناتون الذي دمر معابد الكهان، وأنشد مزاميره المقدسة في الخلاء؟! نحن جديرون إذن بقصيدة النثر، نحن أبناء الفلاح الفصيح، في وادي الملح، خرجنا من شكاياته للفرعون، بعشرات من قصائد النثر.
ألسنا ـ يا محطم الأوثان أحفاد اخناتون الذي دمر معابد الكهان، وأنشد مزاميره في الخلاء؟!

يا أخي
كلما كتبنا قصيدة تشققت وجوهنا، وبحثنا عن دواء لها في وجهك، لكنك كنت تبدو ارستقراطياً وبعيداً. لا تعرف الغبار الذي نركض تحته هنا في القاهرة، ولا البلهارسيا التي نُذرنا لها منذ الصغر، حتى لغتك يا أنسي لم تر النيل في قيلولته الهادئة، ولا في غضبه الذي كان لفترة قريبة، يبتلع القرى والجسور، ويعود ناعماً بعد أن يرتوي بالدم.
حين صرت بيننا كاملاً في ثلاثة أجزاء، لم يجرأوا على أن تدوم إقامتك بين أيدينا طويلاً. يدهم مرتعشة يا أنسي، وضعوا قصائدك الشارخة ولغتك الحادة المدببة في المخازن المظلمة الرطبة، وفاخروا بأنهم أتاحوك لنا في القاهرة. حاولنا أن نصل إليك لكنك كنت تقول: «أَفتحُ نافذةً وأطيرُ» نحن لسنا مثلك يا أخي، ونعرف مكامن الضعف القاتلة فينا، فكيف نجرؤ على أن نردد معك: «الموت للعمالقة، المضمدين بالنساء، يرمون أسهم الكيمياء والنجمة المذنبة، يغلون العواصف كالطرائد».
ألم أقل لك يا سيدي أننا أحفاد ثقافة تقدس الموت، فكيف نتجاسر على أن نكون أنداداً له مثلك، يليق بنا أن نردد معك: «نحن في زمن السرطان». هذا ما كنتَ تقوله للجميع فيضحكون، هكذا قلت: «المصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد، حين نقول: رامبو، نشير إلى عائلة من المرضى، قصيدة النثر بنت هذه العائلة، نحن في زمن السرطان: نثراً وشعراً وكل شيء».
هل قلت: «كل شيء»؟ نعم... وقلت: «دم حديث» و»لم يعد في العالم دمعة» وقلت أيضاً: «الصمت العابر كالفضيحة» هذا هو صمتنا الآن، وكان صلاح عبد الصبور يقول: «رعب أكبر من هذا سوف يجيء» وقد جاء يا سيدي، بينما كنتَ تفتحُ نافذة وتطير، لتتركنا نواجه عجز القصيدة عن أن توقف الدم، ماذا نصنع بالدم؟ أنت الذي يعرف: «ماذا صنعت بالذهب؟ ماذا صنعت بالوردة؟» بالأمس قتلوا 21 مصرياً على شاطئ في ليبيا، أولئك الفقراء المهمشون كانوا يرون البحر لأول مرة في حياتهم. البحر الذي كان مُروَّضاً ومتواطئاً مع القتلى، لم يغضب يا أنسي، كان مستعداً لأن يفتح شدقيه لابتلاع تلك الجثث، ويبارك المجرمين.
يا سيدي
تركتنا وحدنا لتعبر إلى الضفة الأخرى، وأنت تعرف أنه «لا موت للكلمة أو للعالم إلا كان قيامة» تركت لنا في «خواتم 1 «: «أشعر بأن إرث العجز هذا لم يكن لي، أَلمَّ بي منذ انكسرت اللغة، إلى متى أظل محكوماً أن أرى ولا أستطيع أن أمنع ما يحصل وما سيحصل، وأن أقع في الفخ الخبيث وأنا الطيب، وأن أسمع ولا أقدر أن أغير المسموع». تساءلت: «هل من حل؟ هل هناك باب، طريق؟» أسئلة.. أسئلة.. ما من إجابات، سأهديك مقطعاً من ثقافة أجدادي الأولين: «يا من تذهب ستعود/ يا من تنام سوف تنهض/ يا من تمضي سوف تبعث/ فالمجد لك».
* شاعر مصري